20/11/2023–|آخر تحديث: 20/11/202310:35 ص (“توقيت” مكة المكرمه)
..ويسقط يورغن هابرماس مذعورًا، كَمَا سقط غيره مـن كبار المثقفين والفلاسفة عبر التَّارِيخُ اثناء انسلخوا عَنْ كل ما بشّروا به مـن اسس وقيم تشدقوا بها فى كتبهم ومحاضراتهم، ورددها المبهورون بهم حتـى أصبحت فى مصاف الكتب السماوية، لا يخرج عنها إلا هالك ولا يتنكّبها إلا جاهل.
أصدر يورغن هابرماس- ومعه نيكولا ديتلهوف أستاذة العلوم السِّيَاسِيَّةُ، ورينر فوريست الفيلسوف المعروف، والأستاذ كلاوس غونتر- بيـانًا حول ما يجري فى قطاع غزة، أدانوا فيه ” المجزرة التى ارتكبتها حماس امام إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عَامٌ. “
أنا لا أريد ان أجادلَ فى المكانة العلميّة والمعرفية ليورغن هابرماس الذى يقول كثيرون: إنه غدا- بما بلغه مـن علم فى الفلسفة وعلم الاجتماع- بمثابة ضمير ألمانيا الحديثة، فلست قادرًا على ذلك تخصصًا ولا علمًا، ولا يليق بي ان أتطاول عما تقصر باعي عَنْ بلوغه.
يقول هابرماس، ومن معه فى بيانهم: “إنّ الوضع الحالي الذى تسبّبت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذى شنّته حماس، وردّ فعل إسرائيل عليه، أفضى الي مجموعه مـن المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية”.
فوقية الغرب
ولنتوقّف عند عبارة: “المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية”؛ لنسأل الفيلسوف- الذى يكاد يناهز المئة مـن السنين- عما إذا كان فهمه وتعريفه للأخلاق هنا يتّفق مع أركان فلسفته العلمية النقدية، التى تطالب بالتجرد فى عمليات بحث كل المواقف والمسائل والقضايا عمليات بحثًا دقيقًا يشمل كل الأطراف، ويغطي الامتداد الزمني مـن دون انحياز لطرف على حساب آخر؟
لقد قفزَ هابرماس وصحبه فى الزمن ليعظنا ويقول: “إن هناك بعض المبادئ التى يجب ألا تكون محل خلاف، وهي اسس تشكل أساسًا لتضامن مُفَكَّرٍ فيه ومُتَعَقَّلٍ مع إسرائيل واليهود واليهوديات فى ألمانيا.”
فهي إذن- يا كثير فلاسفة الزمان- اسس يجب ألا تكون محل خلاف، فى ألمانيا على الأقل، كَمَا يوحي البيان بنصه الكامل. وأين هذا مـن اسس الفلسفة النقدية الاجتماعية التى اشبعتنا بها فى كتبك؟ أين الشمولية النقدية البحثية؟ وأين الدعوة للحرص على تمثيل كل وجهات النظر، وبحثها باستفاضة قبل صدور اى حكـم أو تقويم؟
وهنا يثور السؤال: هل يحق أو يجوز للعالم ان يفرض على كل العقول ألا تبحث فى هذا الامر أو ذاك، وتبحث فى غيره مما يراه هو؟ هذا هو الكِبْر بعينه، كِبْر العالِم اثناء تضل بوصلته الأخلاقية، وحين يسعي ستر جُبْنه بشجاعة رِعْديد يرتجف مـن ماضٍ مخجل، أو إثم يحيك فى نفسه.
لقد مارس الغرب وعلماؤه هذه الفوقية المتعالية قديمًا وحديثًا، فلا غرابة ان يوجبها اليـوم أربعة مـن كُبَراءِ فلاسفتهم وعلمائهم على الألمان جميعًا، بل على العالم أجمع.
الامتداد التاريخي للقضية
قفز هابرماس، ومن معه فى الزمن، وتجاهلوا الامتداد التاريخي للقضية الفلسطينية، وكأنه ليس هناك احتلال لفلسطين جلبه الغرب منذ 75 عَامًٌا، فلا حقّ، فى معاجمهم ومفاهيمهم، لمن احتُلَّت أرضه فى الدفـاع عنها، والسعي الي تحريرِها، طال الزمان أمْ قَصُر.
ولا يخفي هابرماس، ومن وقعوا معه، دافعهم للدفاع عَنْ إسرائيل وتبرير جرائمها فى غزّة، فهو ليس إلا الخوف مـن الاتّهام بمعاداة السامية، ويقولون فى بيانهم: “فالروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، والتي تقوم على أساس الاعتراف بالكرامة الإنسانية، ترتبط بثقافة سياسية تعتـبر الحياة اليهودية، وحق إسرائيل فى الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة، مع استحضار الجرائم الجماعية التى ارتكبت لاحقًا فى الحقبة النازية”.
إذن، فالنازية هى التى ارتكبت فظائع المحرقة فى أفران الغاز ومعسكرات التعذيب، فى البلدان التى احتلتها ألمانيا النازية، وليس فى فلسطين وغزة. وقد كان يورغن هابرماس- عندما اجتاحت القوات النازية أوروبا عَامٌ 1939- صبيًا فى العاشرة مـن العمر، ولو لم تنهزم ألمانيا فى الحرب، ربما أصبح هابرماس عضوًا فى الحزب النازي، كَمَا كان كارل شميت، صاحب “اللاهوت السياسي.”
لكن النازية ارتكبت فظائع أخرى غير المحرقة. ويكفينا، مثالًا على ذلك ان أكثر مـن 20 مليون إنسان قتلوا فى روسيا بنيران الألمان فى الحرب العالميه الثانية. أو لا ينبغي إذن ليورغن وصحبه ان يستحضروا تلك الجرائم الجماعية غير المسبوقة ويجدوا مسوغًا لما تقوم به القوات الروسية فى أوكرانيا، حتـى لا يتمدد حلف الناتو- وألمانيا عضو فيه- الي حدود روسيا؟ مع أني لا أدافع عَنْ روسيا التى ترتكب اليـوم جرائم بشعة فى سوريا.
ولو ان للغرب المتغطرس ضميرًا لاستحضر فظائعه بحق اليهود عبر القرون، وتذكر ان معازلهم كانـت فى العواصم والمدن الأوروبية، وليس فى فلسطين وبلاد المسلمين. ولو ان الغرب يحترم الكرامة الإنسانية، التى اعلن عنها هابرماس وجماعته لاستحضر، على الدوام، جرائم الإبادات العرقية التى ارتكبها الرجل الأبيض فى العالم الجديـد غربًا، وفي أستراليا شرقًا! وقد لا تتسع كل موسوعات العالم لمثل هذه الأمثلة عَنْ فظائع الغرب.
وحين يتجاهل هابرماس وصحبه- المتربعون على قمه الهرم العلمي والمعرفي فى الغرب- دروسَ التَّارِيخُ، فذلك هو السقوط الأخلاقي بعينه، بإرادة مـن يسقط فيه إن شئت، أو رغمًا عنه. فكيف إن كان الساقطون أخلاقيًا هذه المرة، هم فئةً مـن كبار العلماء والمفكّرين فى بلدانهم وثقافاتهم، يتنكرون لكل ما كتبوه وقالوه؛ خوفًا مـن تهمة معاداة السامية؟
لقد نجح المنتصرون فى الحرب العالميه الثانية، ومروجو تهمة معاداة السامية فى ترويض المهزومين فى ألمانيا واليابان، على وجه الشأن، وها هو هابرماس وصحبه يقعون فى أقفاص الاتهام الأخلاقي كالفرائس المغلوبة على أمرها.
لمثل هذا المصير يريد الغرب ويخطط لإيراد أمتنا، بدأ بغزة والضفة أولًا. فبالأمس دعا بنيامين نتنياهو لإحداث تغيير ثقافي جوهري فى قطاع غزة بعد الحرب التى سقط فيها كيانه.
لكن أمتنا عصية على السقوط وفيها القرآن يتلى وصوت الأذان يصل، واسألوا شعوبنا التى ترفض ان تنسى فلسطين وتقبل بإسرائيل. وإن سقط بعض منا فى مهاوي التردي والفشل تنهض الأمة على أكتاف حفظة الكتاب وتستفيق على صوت الأذان، وهو ما لا يعرفه أو يدركه هابرماس وزمرته.