“أدب المدينة الفاسدة” سبيلا للحرية.. مكتبة جورج أورويل فى روسيا | ثقافة سام نيوز اخبار

تسحب امرأة مسنّة مـن على رفوف مكتبة أعمالا، تحفظ مكانها عَنْ ظهر قلب، لمؤلفين كبار مثل الأديب البريطاني جورج أورويل، وعالم الاجتماع الأميركي الروسي سوروكين، والأديب الروسي الكبير دوستويفسكي.

فى القاعة جهاز كمبيوتر وبضع مئات مـن الكتب، وتفوح رائحة زيت معطّر، ذلك الذى تضعه ألكسندرا كاراسيفا، رئيسة مكتبة جورج أورويل فى إيفانوفو، وهي مدينة صناعية تبعد 5 ساعات بالسيارة عَنْ موسكو.

الأدب والأنسنة

وفي اثناء كانـت منكبّة على تنظيم محتويات المكتبة، تتحدث كاراسيفا (67 عاما) عَنْ قوة تأثير هذه الكتب، إذ إنها فى نظرها “تتيح رؤية الإنسان، حتـى فى العدو، ورفض كل أشكال التجريد مـن الإنسانية”.

افتُتِحت هذه المكتبة فى يونيو/حزيران 2022 بمبادرة مـن رجل الأعمال ديمتري سيلين المُعارض للحرب الروسية على أوكرانيا، وأراد مـن اثناء ذلك توفير أدوات للتفكير والتأمل وتشجيع النقد الذاتي.

وما لبث سيلين، مثل كثر آخرين، ان غادر روسيا بعد مدة قصيرة، مخافة ان تكون مواقفهم سببا للزج بهم فى السجن، لكنّ مكتبته الصغيرة لا تزال قائمة فى الطبقة الأرضية مـن مبنى متداعي السقف والجدران.

وتشرح كاراسيفا ان مجموعه الكتب التى تحويها المكتبة تضمّ أعمالا تنتمي الي الديستوبيا (الواقع المرير) أو أدب المدينة الفاسدة المحكومة بالفوضى والشر، وأخرى عَنْ معسكرات الغولاغ السوفياتية المخصصة للاعتقال، ومؤلفات لكتّاب معاصرين ينتقدون الكرملين، وكتيّبات التعليم السياسي السوفياتي، إضافة الي روايات خفيفة “لتصفية الذهن”.

وليس بين هذه الكتب ما هو محظور. ويمكن تاليا إتاحتها للقراء، مع ان الكتب التى ألّفها أشخاص مصنفون على أنهم “عملاء للخارج” يُفترَض لدى تقديمها للبيع فى المكتبات ان تكون موضوعة دَاخِلٌ مظاريف تحجب غلافها.

أدب الواقع المرير

وتتمتع كاراسيفا، مـن وجهة نظر قانونية، بالحق فى شرح مضامين الكتب، وتقول “كلما قرأ المرء مؤلفات أدب المدينة الفاسدة، ارتفعت حريته، إذ هى تظهر له المخاطر، وطرق تجنبها ومقاومتها”.

وتتحدث أمينة المكتبة، التى تخفي وراء نظّارتها السميكة خزّان معرفة، عَنْ رائعة جورج أورويل “1984”، التى يروي فيها محاولة موظف فى “وزارة الحقيقة” إبداء مقاومة فى اثناء دكتاتورية شديدة الذكاء فى قدرتها على إخضاع الأفراد وتسطيحهم.

وتتناول مسؤولة المكتبة التدمير الذاتي الثوري فى رواية “الشياطين” لدوستويفسكي، والديستوبيا فى أعمال الروسي فلاديمير سوروكين، ومناهضة العنصرية لدى الأميركي هاربر لي، والصرخة مـن اجل الإنسانية لدى الألماني إريك ماريا ريمارك.

وتشير كاراسيفا الي أنها مؤرخة متقاعدة، ومتخصصة فى روما القديمة، ولا سيما “الانتقال مـن الجمهورية الي الدكتاتورية”.

الشمولية فى رواية أورويل

وكان ديمتري تشيستوبالوف (18عاما) موجودا فى هذه القاعة. ويقصد هذا الناشط مـن حزب “يابلوكو” المعارض -وهي مجموعه تقول إنها مضطهدة لكنها لا تزال قانونية- المكتبة لمشاهدة الأفلام والالتقاء بشباب آخرين.

ويقول “هنا، يمكننا ان نكبر، رغم كل ما يحدث فى بلدنا. يمكننا ان ننسى هذا الخوف، ونشعر بالحرية، وبالراحة، ونشعر بأننا لسنا وحدنا فى هذا النظام الهائل الذى يلتهمنا”.

وتجسد الموقف الشمولي عند أورويل فى شخصية أوبراين فى “1984”. وأوبراين هو شخص خيالي قدمه بوصفه مسؤولا حكوميا قويا يستخدم التعذيب والتلاعب لفرض السلطة على أفكار وأفعال بطل الرواية وينستون سميث.

وبشكل ملحوظ، يتعامل أوبراين مع رغبته فى السلطة على أنها غاية فى حد ذاتها. ويمثل أوبراين القوة والسلطة مـن اجل السلطة فحسب (وليس لأي هـدف أكبر)، وكان أوبراين عضوا فى “الحزب الداخلي”، وقد تنكر فى شخصية عضو مـن الأخوية (المقاومة الثورية)، ليخدع مجموعه المقاومة ويوقعهم فى الفخ.

وتتعلق كثير مـن رؤى أورويل الكبيرة بموقفه المناهض للشمولية. وفي مقالته عَامٌ 1941 بعنوان “الأسد ووحيد القرن”، كتب أورويل عَنْ “الفكرة الشمولية القائلة إنه لا يوجد شيء اسمه القانون، هناك فقط القوة”، وبعبارة أخرى ترى هذه المقولة ان القوانين يمكن ان تحد مـن سلطة الحاكم، وتسعى الشمولية الي طمس حدود القانون مـن اثناء الممارسة غير المقيدة للسلطة.

“الجهل هو القوة”

وتلاحظ المحامية أناستاسيا رودنكو (41 عاما) التى شاركت فى تأسيس المكتبة “مؤشرات” فى روسيا الي الشمولية التى تناولها أورويل فى روسيا فى “1984”. وتشعر أولا بـ”الخوف الذى يكبّل”.

ثم أذهلها مدى صحة الشعار الموجود فى الكتاب “الجهل هو القوة”، لأن الروس الذين “لا يحاولون فهم ما يحدث، يعيشون حياة جيدة جدا”، فى رأيها.

“مأساة شخصية”

فى الساحة المركزية فى إيفانوفو، بالقرب مـن لوحة تخلّد ذكرى أشخاص قتلتهم السلطة القيصرية اثناء تظاهرة مناهضة للحرب عَامٌ 1915، تتحدث زائرة المكتبة أناستاسيا رودينكو عَنْ “مأساتها الشخصية”.

ويشارك شقيقها وزوجها، وهما ضابطان فى الجيش الروسي، فى “العملية العسكرية الخاصة”، وهو التعبير الملطف الذى فرضه الكرملين لوصف الحرب على أوكرانيا.

لا يمكنها الخوض كثيرا فى هذا الموضوع، إذ إن اى أقوال حساسة يمكن ان تدلي بها قد تؤدي الي عقوبة، وحتى الي إيداعها السجن، ولا تُوفَّر لها كونها محامية أو زوجة عسكري اى حصانة.

وفي يونيو/حزيران 2023، فرضت عليها الجهات القضائية غرامة مالية بتهمة “تشويه سمعة” الجيش. واستند الحكـم، كَمَا الحال غالبا، الي رسائل عبر “تلغرام” ذكرت فيها أنها شاهدت فيلما وثائقيا عَنْ المعارض أليكسي نافالني. وتمكن زوجها مـن الحضور الي الجلسة لدعمها.

وما إن تبدأ أناستاسيا رودينكو، الأوكرانية الأصل لجهة والدها، بالتحدث عَنْ “الألم الكبير” لكونها عاجزة فى مواجهه الحرب، حتـى تجهش فجأة بالبكاء، لكنها تحب زوجها، وباتت تحبه “حتما أكثر” منذ ان غادر للقتال.

وترد على مـن يدينونها بسـبب هذا التنافر ويتساءلون عَنْ سبب بقائهما معا بالقول: “وأنتم، ماذا كنتم لتفعلوا؟”.