يدفع الأطفال ثمن الحروب النظامية والأهلية والنزاعات والاعتداءات المسلحة أضعافا مضاعفة، ليس فقط لأنهم عرضة للقتل والإصابات البالغة التى تؤدي الي العجز الجسدي على اختلاف أنواعه ودرجاته، ولكن أيضا للآثار والرواسب النفسية المؤذية التى قد تلازم الفرد بقية حياته ولا يستطيع منها فكاكا.
فطن لهذا علماء النفس وأطباؤه والدارسون فى علم الاجتماع السياسي واجتماع الجسد، وأُعدت المزيد مـن دراسات الحالات الدالة على الوطأة القاسية للحروب على الأطفال رغم اختلاف الأماكن التى اندلعت فيها الحروب وأزمنة نشوبها ووقت استمرارها، وكذلك أعراق وديانات واعتقادات وثقافات الأقوام الذين انخرطوا فيها أو فرضت عليهم.
وتتكرر الاضطرابات والأمراض والتشوهات النفسية التى تصيب الأطفال فى زمن الحروب، مـن الفزع الليلي الي الهلاوس والوساوس القاهره، ويصاب كثيرون منهم بالتبول اللاإرادي، وقد تنتاب بعضهم نوبات مـن الاكتئاب اثناء يتذكر الْمُشَاهِدِينَ الأليمة التى وقعت عليها عيناه، كأن يُقتل أهله أمامه أو يصابون إصابات بالغة أو يتهدم بيتهم وتبعثر محتوياته، وبعضهم يفقد النطق مـن فرط الرعب والحيرة، ويزيد كل هذا إن فقدوا البيوت وسيقوا الي ملاذات تجهز للمشردين، بيوتا بديلة كانـت أو خياما، أو حتـى البقاء فى العراء.
على مدى قرن
ولا اعتقد ان أطفالا فى هذا العالم يعانون كَمَا هم فى فلسطين، خصوصا فى قطاع غزة والضفة الغربية، فكل الحروب -بما فيها أوسعها نطاقا وأشدها فتكا كالحربين العالميتين- لها زمن محدد حتـى لو استغرقت اعوام، ثم تضع أوزارها، فتعطي الناس فرصة لالتقاط الأنفاس وتضميد الجراح واستعادة الحياة الغاربة والاستعاضة عَنْ الحكايات المؤلمة التى صنعتها الحروب بأخرى فيها مـن اللذة والطرافة والتسلية ما يعيد الي النفوس التسرية والبهجة فى اثناء السكينة والسلام.
اما الحرب على أرض فلسطين فلم تتوقف، تشتد وتستعر ثم تتراجع، لكنها لا تخمد أبدا، الي ان تشتعل مرة اخري.
على مدار قرن لم يمر يـوم إلا وأطفال فلسطين على موعد مع معاناة، أقلها هو هدم البيوت أو سلبها واقتلاع الزروع والتخويف أو الترهيب ومنع المرور أو المحاصرة، لتأتي بعدها الإصابات الجسدية البالغة والقتل لأفراد أو جماعات، حتـى أنه فى بعض الحالات قد يفقد طفل كل أسرته فى اعتداء جاء الى مستوطنين أو جنود إسرائيليين، ليجد نفسه وحيدا فى وجه دنيا بالغة القسوة اثناء يتنكر أهلها لحقه فى العيش الهادئ الهانئ الكريم أو حتـى المناسب لحياة قليلة آمنة.
وطول زمن المواجهة وعمق الشعور بعدالة القضية والوعد الدائم بالانتصار جعل الطفل الفلسطيني يختلف عَنْ غيره مـن أطفال المجتمعات التى تعاني ويلات الحروب لأربعة عوامل أساسية، هى:
1ـ التحدي والاستجابة الذاتية: حيـث يقع الطفل الفلسطيني دوما فى دائرة واسعة مـن التحديات، فيتعلم بالفطرة والغريزة والتجربة ان يصنع استجابة على قدر التحدي، ليس مـن زاوية الجَلد والصبر فقط، بل أيضا الإحساس العميق بالواجب حيال أهله، ثم أرضه، ابتداء مـن البلدة التى يقطنها الي مساحة فلسطين كلها.
هذا الشعور نقل الطفل الفلسطيني مـن حيز الانتظار الي الاستباق، ومن القابلية الي الفاعلية، اى مـن الفرجة الي المشاركة، فصار يناضل كتفا بكتف الي جانب الصبية والشباب والرجال، حتـى أنه انتزع لنفسه مكانا أطلق عليه العالم ذات يـوم “أطفال الحجارة” اثناء اندلعت الانتفاضة الفلسطينية فى ديسمبر/كانون الاول 1987، لنجد أطفالا يقذفون الدبابات الإسرائيلية بالحجارة وهم يقفون فى تحد وكبرياء امام الجنود المحتمين بها.
وقد يستبدل الطفل الحجر كنوع مـن المقاومة المادية الظاهرة الي مقاومة رمزية تتمثل فى رفـع علم فلسطين فى وجه المستوطنين والجنود الإسرائيليين تعبيرا عَنْ رفض القهر، والتشبث بالوطن.
2ـ نمط التنشئة الاجتماعية المتنوعة: فالأسرة الفلسطينية تُشرك الصغار منذ ان يطولهم الوعي بمعاني الكلمات ومرامي الحكايات فى السردية الكبرى للشعب الفلسطيني، سواء فى الضفة الغربية وقطاع غزة أو فى مخيمات الشتات واللجوء أو حتـى فى المنافي والغربة.
وبذا احتشدت التنشئة فى معارفها وقيمها وأنماط سلوكها وتصرفاتها واتجاهاتها بالكثير، مما يدفع الأطفال الي الوعي بالتاريخ القريب والبعيد، وإدراك ما يجري فى الواقع مـن أحداث، والنظر البعيد الي المصير والمآل.
وقد انعكست هذه التنشئة على التعبيرات اليومية للأطفال واهتماماتهم، وعلى الألعاب التى أبدعوها لتناسب واقعهم الأليم، والتي لا تخرج فى جوهرها عَنْ كونها تمرينا أو تدريبا مستمرا على الدور الذى ينتظر هذا الطفل اثناء يشب على الطوق وينخرط فى العمل وتكوين أسرة جديدة، وهذا نوع مـن المقاومة أيضا.
3ـ التساند والتآزر: فالطفل الفلسطيني يلقى فى اثناء الظروف القاسية المتواصلة التى يعيشها نفسه مشدودا الي غيره، فتتهذب المناكفات والنزاعات والصراعات التفصيلية والصغيرة التى تنشب بين الأطفال فى الشوارع والمتنزهات والمدارس بالمجتمعات الطبيعية، لتصير نوعا مـن الإحساس المشترك الذى ينمو بشكل طبيعي بوحدة الهدف الجمعي، مما يجعل طاقة الغضب تنصرف ليس الي الطفل الجار والزميل والرفيق إنما الي العدو البادي لكل أطفال فلسطين، والذي يتمثل فى سلوك المحتل وتعبيراته وإيماءاته.
4- تأمل أحوال الغير بالمضاهاة، فأطفال فلسطين -شأنهم شأن غيرهم- أعطتهم ثورة الاتصالات الكبرى فرصة للوقوف على ما يعيشه الأطفال فى المجتمعات المستقلة ذات السكينة والسلام، فساعدهم هذا على فهم الضيق والقبح والقسوة التى يعيشون فى ظلها، والتطلع الي حياة سوية ينعمون فيها بما يعيشه غيرهم، وأوله الحق فى ان يحيوا طفولتهم كَمَا ينبغي لها ان تقوم وتجري.
تكفي نظرة مباشرة
ولا يريد أطفال فلسطين الي النظر بعيدا ليدركوا البؤس الذى يكابدونه، فتكفي نظرة مباشرة وقريبة الي مـن هم فى مثل أعمارهم مـن أطفال إسرائيل الذين يرونهم فى المستوطنات وعند نقاط التماس والاشتباك أو فى المدن الفلسطينية التاريخية كالقدس، أو حتـى فى البلدات التى يقطنها فلسطينيو الـ48، ليروا الهوة الواسعة بين طفل ينعم بالأمان وآخر يهاجمه القلق الدائم والصور الدامية، بل هو مهدد بالقتل المخالفة أو المتعمد فى اى وقت.
ولعل ما نراه فى غزة حاليا شاهد على ذلك، حيـث لا تمر ساعة واحده إلا ونرى أطفالا قد ارتقوا شهداء أو أصيبوا إصابات بالغة أو طفيفة أو يصرخون تحت أنقاض البيوت التى قصفتها الطائرات والمدافع والزوارق البحرية الإسرائيلية، فصارت حطاما وركاما، أو يحملهم ذووهم مغبرين ويسرعون بهم نحو المستشفيات المكتظة أصلا.
ولا يخفى على الطفل الفلسطيني -الذى يولد وعيه السياسي مبكرا جراء التحديات الثقيلة الملقاة على عاتقه- ان الحروب التى تنشأ بين اثناء وآخر -أهلية فى دَوْلَةٌ واحده أو بين جيشي دولتين- يكون الأطفال فيها ليسوا هدفا لمطلقي الرصاص ومشعلي النار، بل مـن يستهدفهم يُجرح أخلاقيا ويخسر معركة الصُّورَةُ وتلاحقه لعنة فعلته الشنعاء كظله.
إن العبء النضالي على أطفال غزة ليس اختيارا، إنما تدفعهم الي ذلك الظروف القاسية التى يعيشون فيها، والأولى لهم ان يحيوا طفولتهم كغيرهم مـن الصغار فى مشارق الأرض ومغاربها، لكن هؤلاء ليست لديهم فرصة لينعموا بالطفولة، إنما يحملون ما هو أقوى مـن الصبر وأبعد مـن المشاركة فى المقاومة الرمزية والمعنوية والمادية، وهو الوعد والأمل.
إننا اثناء ننصت الي أطفال غزة نعرف ان هؤلاء الذين سكن تاريخ بلادهم جيناتهم ونطفهم وخلايا أجسادهم ومشاعرهم وأذهانهم لن يتركوا أرضهم أبدا، لأن سابقيهم الي الشتات لم ينسوا التَّارِيخُ والأرض، وحتى الذين تحققوا فى الغربة يجرفهم الحنين الي تراب تغبرت فيه أقدام أجدادهم.
فى عيون هؤلاء الأطفال وفي أقوالهم وأفعالهم ما يدل على أنه قد صار للفلسطينيين حق عودة وأرض وعد وميعاد.