يبدو انَّ الاعتقادَ السائدَ لدى العرب بالدَّعم اللامتناهي للقضيَّة الفلسطينيَّة مـن قِبل أغلب بلدان أميركا اللاتينيّة، أصبحَ يريدُ تحديثًا تفرضُه الظروفُ السياسيَّة فى المِنطقة، وتوجّهات الحكومات المتعاقبة فى مختلِف البلدانِ منذ ان تراجعَ وزنُ تيّار اليسار الاجتماعيّ بوفاة الزعيم الفنزويليّ تشافيز فى 2013. حيـث جاءت المواقفُ ممّا يحدثُ فى غزَّةَ وغِلافها، إمّا قاسيةً على الجانب الفلسطيني، وإمَّا بدون رُوح، باستثناء موقفَي كولومبيا وفنزويلا.
فالموقفُ الأوَّل، والأبرزُ والأكثر إثارةً للجدل فى بلدِه، اتخذَه رئيسُ كولومبيا اليساريّ غوستافو بيترو، بعد سُويعات مـن بدايةِ عملية “طوفان الأقصى”، مـن اثناء نشرِه أكثرَ مـن عشْرِ تغريداتٍ على حسابه فى منصه X، خَلَت مـن عباراتِ التنديد أو الاتِّهام لحماس، وقالَ فى إحداها: “الحلُّ الوحيد كي ينامَ أطفالُ إسرائيلَ بسلام، هو ان ينامَ أطفالُ فلسطينَ بسلام، وهذا لن يتحقَّق إلا باتفاقيّة سلامٍ تحترمُ حقوقَ الجمهورَين…”، وأضافَ: ” بينما يلي صورُ أطفال فلسطينيين اغتالَهم الاحتلال الغاصب لأرضِهم”. كَمَا دوَّن فى تغريدةٍ أخرى: “لقد درست تاريخَ القضية الفلسطينيَّة منذ شبابي، وعرَفت جيدًا معنى الاحتلال والفصل العنصريّ والجرائم امامَّ الإنسانيَّة التى ارتكبتْها إسرائيلُ فى حقِّ الجمهورِ الفلسطينيّ، لا يمكنني ان أتغاضَى عَنْ هذا!!”. وعزَّز تلك التغريدةَ بصور تُظهر التغيّراتِ التى طرأت على الخريطةِ الفلسطينية منذ 1948، كَمَا وصفَ غزَّة فى تغريدة أخرى: “بالسجن الكبير المُحاصر منذ 16 سنة”.
المعارضة على خط الهجوم
هذه التغريداتِ، قُوبلت بتسونامي انتقاداتٍ مـن قِبل سياسيينَ مـن المعارضة اليمينيّة فى كولومبيا والمِنطقة، والرأي العام التابع لها، وحسابات تُوحي بانتمائِها الي لجانٍ إلكترونية تنتهج السَّبَّ والشّتم. إضافةً الي ذلك، تبادلَ الرئيس بيترو تغريداتٍ حادّة مع السفير الإسرائيليّ فى بوغوتا، لامَه فيها هذا الأخيرُ على عدم إدانته لـ”إرهاب حماس”، غير انَّ ردّ الرئيس بيترو كان: “ردّ حكومتي ما كان ليتغيرَ سواء أدَّى الإرهاب الي مقتلِ أطفال أبرياء فى كولومبيا أو فى فلسطين”. ويبدو انَّ السفيرَ الإسرائيليَّ يقصد بتغريدتِه تلك، التعديلَ الذى طرأ على بيـانِ الخارجية الكولومبية على الاحداث، حيـث تمّ حذف عبارات: “ندين بشدَّة الهجوم الإرهابي على المَدنيين” و”فى إسرائيل”، واستنتج الجميعُ انَّ الخارجيَّة أصدرت البيانَ دون العودة للرئيس، فاضطُرت لتعديله.
وقريبًا مـن موقفِ رئيس كولومبيا، أعادَ الرئيسُ الفنزويلي نيكولاس مادورو نشرَ بيـان خارجيته الذى رأى انَّه على إسرائيل إعادة حقوق الجمهورِ الفلسطيني ليعمَّ السلام، ودعا الي تنفيذ القرار رقْم 2334 الصّادر عَنْ مجلس الأمن، الذى يطالبُ إسرائيل بوقفِ الاستيطان فى الضّفة الغربية بما فيها القدسُ الشرقية، وعدم شرعيّة إنشاء إسرائيلَ المستوطناتِ فى الأرضِ المحتلّة منذ عَامٌ 1967. ولم يندّد البيان بما أقدمت عليه حماسُ، ولم يصفْها بالإرهابية.
رفـع أعلم فلسطين
وعلى خَلفيّة البيان الباهت، الذى أصدرتْه خارجية بوليفيا، نشرَ الزعيمُ اليساري والرئيس الأسبق، إيفو موراليس، عَدَّدًَا مـن الصور التى رُفعت فيها أعلامُ فلسطين والتغريدات التى استنكر فيها “اللغة الخشبية” التى تضمّنها البيان، حَسَب وصفه. وقال:
“الجمهور البوليفي سيدين دائمًا الاحتلالَ الإسرائيلي غير القانونيّ للأراضي الفلسطينية، والعدوان المنهجيّ على الجمهور الفلسطيني وكفاحه مـن اجل الاستقلال. تلك هى الأسباب الحقيقيَّة للصراع، وعدم إدانتها يعني التواطؤ”. وأضافَ فى تغريدة أخرى: ” عندما تدافع الشعوب عَنْ سيادتها، يُطلَق عليها الإرهابيون.”
ومن المعروف ان الرئيس الأسبق البوليفي موراليس، يعيش مؤخرًا حربًا ضروسًا مع الرئيس الحالي لويس أرسي، الذى كان وزيرَ ماليته حتـى 2019، ورشّحه بنفسه خلفًا له، لكنَّ مشاكل كبرى نشبت بين الطرفَين، أدَّت الي أزمة عميقة فى الرئاسة الحالية، واضطرت الحزب الحاكم الي بطاقة حمراء الرئيس أرسي ونائبه وعشرين نائبًا برلمانيًا، مـن صفوفه.
المتعاطفون مع اسرائيل
فى المقابل، ولتشابه المواقف المُتعاطفة مع إسرائيل، سنكتفي بمواقف ثلاثة رؤساء.
أوّلها، موقف الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، الذى جاء قاسيًا على غير العادة، حيـث اعلن فى تغريدة على منصه X: “لقد صدمتني الهجماتُ الإرهابية التى نُفّذت اليـوم امام المدنيين فى إسرائيل، والتي أودت بحياة العديد مـن الضحايا. وإنني إذ أعرب عَنْ تعازيّ لأقارب الضحايا، أؤكّد مرة اخري نبذي للإرهابِ بكل أشكاله، وأدعو المجتمع الدولىَّ الي العمل مـن اجل الاستئناف الفوري للمفاوضات المميزة لحلِّ الصراع، بشكل يضمن وجودَ دَوْلَةٌ فلسطينية قادرة على البقاء اقتصاديًا، تعيش بسلام مع إسرائيلَ دَاخِلٌ حدود آمنة لكلا الجانبَين”.
وثانيها، موقف رئيس التشيلي اليساري غابرييل بوريش، الذى أسهبَ فى عبارات الاستنكار فى تغريدته الأولى يـوم السبت، على منصه X، وأعرب عَنْ “الإدانة المُطلقة للهجمات على عَدَّدٍَ مـن البلدات والمدن فى إسرائيل” وتقدّم بالتعازي لأهالي الضحايا، وأمرَ بإرسال طائرة لإجلاء 200 سائحٍ مـن التشيلي، عالقين فى إسرائيل.
ودعا بيـانُ خارجيته الي ضرورة استئناف عملية المفاوضات بين الطرفَين الفلسطيني والإسرائيلي، بما يفضي الي اتفاقِ سلام عادل ونهائي، فى اطار الحلّ القائم على وجود دولتَين وَفقًا للقرارات التى اتخذتها الأمم المتحدة.
ورغم حرصِ رئيس التشيلي وبيانِ خارجيته على اتخاذ موقفٍ أقرب الي التعاطف مع إسرائيل، إلّا انَّ سفير إسرائيل فى التشيلي، أعربَ عَنْ غضبه الشديد بشأن تغريدة حصريّة بوزير خارجيّة التشيلي ذكّر فيها الرَّأْيَ العام بأنَّ “حماس فى موضع الدفـاع عَنْ النفس”.
أمّا ثالث موقف والذي اعتُبر الأعنف، هو الصادر عَنْ الرئيس السلفادوري نجيب بوكيله، حيـث نشرَ تغريدات باللغتَين الإسبانية والإنجليزية تضمنت القادم:”بصفتي سلفادوريًا مـن أصول فلسطينية، أنا متأكّد مـن ان افضل شيء يمكن ان يحدث للشعب الفلسطيني هو اختفاء حماس تمامًا، هذه الوحوش لا تمثل الفلسطينيين.” وأضافَ: “اى شخص يدعـم القضية الفلسطينية سيرتكب خطأ كثيرًا بالوقوف الي جانب هؤلاء المجرمين”.
والرئيس بوكيله، فـازَ بالرئاسة فى 2019 بمباركة إسرائيلية، وواضح انَّه حريص على الحفاظِ عليها، وهو على مشارف الترشّح لفترة ثانية فى 2024.
الظروف المحليه
إنَّ مواقف قادة أميركا اللاتينية مـن اى مستجدات بشأن القضية الفلسطينية، محكومةٌ بالظروف المحليه لكل بلد. فالأحزابُ السِّيَاسِيَّةُ وممثلوها يفكّرون كثيرًا قبل الجَهْر بمواقفِهم المعادية لإسرائيلَ، نظرًا لأنَّ شعوب هذه المِنطقة النائية مـن الكوكب، يتأثرون بشكل أساسي بروايات وسائل الإعلام الغربيّة المتعاطفة دائمًا مع إسرائيل. ويرى الكثيرون انَّ موقفَ الرئيس الكولومبي الذى يعتبر أوَّل رئيس يساري لبلده، سوف تكون له تبعاتٌ مُدوّية، وليس مـن الغريب ان تكلّفه خسارةَ منصبه، إن لم يكن سجنه، بحُجج أخرى!!