قد تكون أسوأ صدمات التضخم العالميه فى المرآة الخلفية لمحافظي البنوك المركزية اثناء حضور الاجتماع السنوي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي هذا الاسبوع، لكن صناع السياسات يشعرون بالقلق مـن إعلان النصر.
فى العام الماضي، سعى المسؤولون الذين حضروا الحدث رفيع المستوى الذى استضافه بنك الاحتياطي الفيدرالي فى كانساس سيتي فى جاكسون هول بولاية وايومنغ، الي تلميع أوراق اعتمادهم فى مكافحة التضخم بعد فشلهم فى تحديد أو الاستجابة بسرعة كافية للارتفاع الحاد فى أسعار المستهلكين منذ السبعينيات.
ولكن بعد دفع أسعار الفائدة الي أعلى مستوياتها منذ عدة عقود، يتعين على محافظي البنوك المركزية الحاضرين ان يتعاملوا مع عملية شاقة أخرى: ضبط السياسة على النحو الصحيح للسيطرة على التضخم، دون التسبب فى مصاعب لا مبرر لها وارتفاع معدل البطالة، وفقاً لتقرير “فايننشال تايمز”، والذي اطلعت عليه “العربية.نت”.
وأفادت الصحيفه، ان اضطرارهم الي القيام بذلك فى وقت لم يستقر فيه غبار جائحة عالمية وحرب فى أوكرانيا ربما تكون قد أعادت تنظيم الاقتصاد بشكل أساسي، يجعل التحدي أكثر صعوبة.
ويرى الكثيرين ان بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا مـن بين البنوك المركزية التى لا تزال تدرس كيفية رفـع أسعار الفائدة القياسية الخاصة بها، مع ان تأثير الزيادات السابقة لم يدخل حيز التنفيذ الكامل بعد.
ويلوح فى الأفق أيضا شبح تباطؤ النمو، بينما أصبحت وجهات النظر الداخلية حول التوقعات أكثر انقساما.
الي متى ستظل أسعار الفائدة مرتفعة؟
وقريباً، سيتعين عليهم أيضاً ان يواجهوا المدة التى سيستغرقها الإبقاء على تلك المعدلات مرتفعة لضمان عدم اشتعال ضغوط الأسعار مرة أخرى. فى الولايات المتحدة على الأقل، قد يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي قريباً مـن نهاية مرحلة رفـع أسعار الفائدة فى معركته التضخمية، بعد ان أبطأ بالفعل وتيرة تشديد السياسة النقدية مع صعود سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية الي ما يزيد عَنْ 5%.
ويفكر مسؤولو البنك المركزى الأوروبي الان أيضاً فى التوقف مؤقتاً، بينما مـن المتوقع حدوث المزيد مـن الزيادات فى المملكة المتحدة هذا العام. ولكن بينما ان المرونة فى أكبر اقتصاد فى العالم قد خففت المخاوف مـن ركود وشيك، إلا أنها تحدت التوقعات بشأن الوقت الذى سيشعر فيه بنك الاحتياطي الفيدرالي بالارتياح لخفض أسعار الفائدة.
مـن جانبه، اعلن الموظف السابق فى البنك المركزى الأميركي، جوزيف غانيون: “معظم عمليات التشديد التى قاموا بها كانـت مجرد تعافي مـن موقف فضفاض بشكل غير مناسب، لذلك فقط فى الزيادات القليلة الاخيره، وصلوا بأسعار الفائدة الي المنطقة التقييدية”. “إنهم حقاً فى مكان حيـث يتعين عليهم ان يتحسسوا طريقهم الي الأمام بعناية.”
وقد بدأ المسؤولون فى وصف المخاطر التى تواجه الاقتصاد الأميركي بأنها “ذات وجهين”، مما يعني أنه بينما ان خوفهم مـن التضخم لا يزال ينتشر، فإنهم يدركون أيضاً التكاليف التى سيتحملها المستهلكون والشركات إذا تم تشديد السياسات النقدية بشكل مفرط.
وقد تضخمت هذه المخاوف بسـبب المشكلات الاقتصاديه التى تواجهها الصين، فضلاً عَنْ التراجع المستمر مـن جانب المقرضين الإقليميين الأميركيين فى أعقاب الضغوط المصرفية هذا العام. ولكن حتـى مع تراجع التضخم، وتراجع قطاع التصنيع وتشديد الْأَوْضَاعُ المالية، فإن سوق العمل – حتـى الان – يظل قويا.
بيانات الوظائف
وعلى الرغم مـن تباطؤ نمو الوظائف الشهري، إلا ان معدل البطالة لا يزال بالقرب مـن اقل مستوياته منذ 50 عاماً. وقد ساعد ذلك فى تعزيز الإنفاق، حتـى مع تخلف المزيد مـن الأميركيين عَنْ سداد القروض وتضاؤل مخزونات الادخار.
ووصف راجورام راجان، المحافظ السابق لبنك الاحتياطي الهندي، البيانات الاخيره بأنها “إشكالية بعض الشيء”.
وحذرت إلين ميد، التى عملت كمستشارة أولى لمجلس محافظي بنك الاحتياطي الفيدرالي حتـى عَامٌ 2021، البنك المركزى مـن الثقة المفرطة فى قبضته على التضخم.
وقالت: “أنت لا تريد ان تتقلب وتقول إننا انتهينا وسنصمد لفترة طويلة ثم تكتشف بحلول نهاية العام أنه يتعين عليك رفـع أسعار الفائدة بضع مرات أخرى”. كَمَا حث ميد بنك الاحتياطي الفيدرالي على توضيح أنه بمجرد الانتهاء مـن رفـع أسعار الفائدة، فإن سياسته ستظل “مقيدة للغاية”.
ويتوقع صناع السياسات والاقتصاديون السابقون ان يؤكد رئيس البنك المركزى جيروم باول على هذا الموقف “الأعلى لفترة أطول” بشأن أسعار الفائدة اثناء خطابه الذى طال انتظاره يـوم الجمعة.
ويعتمد هذا النهج جزئيا على افتراض مفاده ان ما يسمى سعر الفائدة المحايد ــ وهو المستوى الذى لا يحفز النمو ولا يثبطه ــ أصبح أعلى مما كان عليه فى الماضي.
بينما ان المناقشة لا تزال بعيدة عَنْ الحل، يعتقد دونالد كوهن، الذى شغل منصب نائب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي اثناء الأزمة المالية العالميه عَامٌ 2008، ان تكاليف الاقتراض المرتفعة مـن المرجح ان تستمر.
وقال إن العجز الحكومي المتضخم، وزيادة الإنفاق على استثمارات الطاقة الخضراء، والتركيز المتزايد على التصنيع المحلي الي جانب النمو الأقوى مـن المتوقع، تضافرت لترجيح الاحتمالات امام التراجع الي أسعار الفائدة المنخفضة للغاية فى مدة ما بعد الأزمة.
جيروم باول
بدأت تقديرات مَسْؤُولِي بنك الاحتياطي الفيدرالي الخاصة للمعدل المحايد – المعروف أيضاً باسم R-star – فى الارتفاع على الرغم مـن ان متوسط التوقعات لا يزال يحوم عند مستوى ما قبل الوباء بنسبة 2.5%، أو 0.5% بالقيمة الحقيقية، بمجرد تعديله وفقاً لـ التضخم عند 2%.
ويعتقد الباحثون فى بنك الاحتياطي الفيدرالي فى نيويورك ان R-star قد ارتفع على المدى القصير، لكنهم يتوقعون ان يتراجع الي مستوى اقل على المدى الطويل.
وهذا هو الرَّأْي الذى يتبناه أيضاً صندوق النقد الدولى، الذى يحذر مـن ان القوى العلمانية مثل التركيبة السكانية المتقدمة فى السن ستتولى المسؤولية مرة أخرى لخفض تكاليف الاقتراض.
اما صناع السياسة السابقون الآخرون فهم أكثر تشككا. وقال راندال كروسنر، الذى شغل منصب محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي بين عامي 2006 و2009، إنه يَتَهَيَّأُ لهبوط “قاس” يمكن ان يدفع معدل البطالة الي 5% على الأقل.
وقال: “هناك عَدَّدَ قليل جداً مـن الحلقات التى شهدت فيها قليلاً مـن الحركة الصعودية (فى البطالة) مع تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي”. “الامر ليس مستحيلاً، ولكن هذا هو السيناريو الذى يجب ان يسير فيه كل شيء بشكل صحيح تماماً.” وأضاف كروسنر: “نحن فى عالم يصعب فيه رؤية كل شيء يسير على ما يرام فى العام القادم”.