الحرب على غزة.. اثناء تنتصر أطروحة الفعل الاجتماعي على أطروحة البنية | آراء سام نيوز اخبار
كثيرة هى المقاربات التى تحاول تفسير الحرب على غزة ومستقبلها، وأي السيناريوهات يمكن ان تأخذه، لكن قلما يتم الالتفات الي البعد الفكري والنظري فى الموضوع، والقواعد التى تؤطر العقل الصهيوني والغربي عمومًا فى تعاطيه مع حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية.
منذ سنة 2005، اى سنة تصدر حماس نتائـج الانتخابات فى قطاع غزة، وإمساكها بدواليب السلطة فيها، أنتج العقل الصهيوني والأميركي مقاربة واحده، لا تزال الي الان، الجواب المتكرر فى التعاطي مع قطاع غزة ومقاومتها: الحصار.
خلافًا للاستشرافات الأميركية حول أشكال استجابة المواطن الفلسطيني للحصار على غزة، اثبت الوقائع، ان فصائل المقاومة الفلسطينية باتت تتمتع بشرعية أكبر، وأن هناك معادلة متلازمة، تربط بين استهداف الحاجيات الأساسية للمواطن الفلسطيني، وازدياد نسبه الدعـم للمقاومة الفلسطينية
انطلقت الأطروحة مـن تصور بنيوي وظيفي، يقوم على فكرة ان دعـم المواطن الغزي للمقاومة الفلسطينية لن يستمر إذا ما فقد الحاجيات الأساسية للحياة، وأن سؤالًا سينقدح فى ذهنه، ويستبد به كلما شعر أنه يفقد كل متطلبات العيش، فيكبر التناقض فى تصوره بين الحاجة الي الحياة، والحاجة الي دعـم المقاومة، حتـى ينتهي الي نتيجه مصيرية، مفادها ان الاستمرار فى الحياة، يتطلب فك الارتباط بفصائل المقاومة، بل خوض معركة ضدها، باعتبارها مسؤولة عَنْ المعاناة التى لحقت بالمواطنين الفلسطينيين.
لم تؤتِ هذه الأطروحة نتائجها فى العدوان على غزة سنة 2014، وتحولت الي أطروحة تهجير، إذ اتجه العدوان الإسرائيلي الي منحى استهداف المدنيين بدرجة أولى؛ لإلجائهم الي الهجرة، فتحول المنظور مـن حصار بالمنع مـن الحاجيات الأساسية، الي تهديد بالموت والقتل.
العقل البحثي الغربي- الذى يؤطر مختلف حقول المعرفة الاجتماعية- كان دائمًا يتأرجح بين أطروحتين: “أطروحة البنية”، و”أطروحة الفعل الاجتماعي”، لكن، أغلب التقليعات النظرية والمنهجية- لاسيما فى مجال العلوم الاجتماعية- تنتصر أكثر لأطروحة “البنية” أكثر مـن انتصارها لفكرة “الفعل الاجتماعي”، وهو ما نرى انعكاسه على قواعد تفكير العقل السياسي الأميركي والصهيوني على حد سواء.
تبدأ أطروحة البنية، مـن فكرة ان القضاء على حماس وبنيتها العسكرية وتولي الكيان الصهيوني المسؤولية الأمنية للقطاع، أمر ممكن، فإسرائيل بدعم أميركي، تمتلك التكنولوجيا العسكرية المتطورة التى تسمح لها بالقيام بهذا الإنجاز، وتملك الحشد الدولى القادر على تقديم جرائمها، وتملك القدرة على تحييد كل جبهات القتال الاخرى بدعم أميركي، وتملك جعل فاعلية الدول العربية خارج دائرة التأثير، وفوق هذا وذاك، تملك القدرة على تعبئة داخلها، ورصّ الجبهة الداخلية، وتملك الخيارات التى تعزل فصائل المقاومة الفلسطينية عَنْ حاضنتها الشعبية، وتملك ان تدير المعركة بالشكل الذى تريد، وفي الزمان الذى تختاره، والمكان الذى تحدده.
فى الواقع، ثمة إشكالان عريضان يواجهان العقل البنيوي الوظيفي الصهيوني وكذلك الأميركي:
- يتعلق الاول باختلاف المعادلة الاجتماعية، فالإسرائيليون- ومعهم الأميركان والأوروبيون- يعتقدون ان المواطن الفلسطيني مثله مثل المواطن الإسرائيلي أو المواطن الأميركي أو الأوروبي، وأنه مسيج ببنية، يستجيب لتحدياتها، وينضبط لروادعها، وأن المس بحاجيات الحياة الأساسية، يدفعه دفعًا الي التفكير العقلاني البراغماتي على شاكلة ما يفعل الإنسان الأميركي أو الأوروبي أو حتـى الإسرائيلي، حينما يضطر للتنازل عَنْ طوباويته وأحلامه فى مقابل لوازم الحياة ومصالحها المادية.
التجربة اثبت العكس، فخلافًا للاستشرافات الأميركية التى أنتجتها مختلف أدوات الصناعة البحثية حول أشكال استجابة المواطن الفلسطيني للحصار على غزة، اثبت الوقائع، ان فصائل المقاومة الفلسطينية باتت تتمتع بشرعية أكبر، وأن هناك معادلة متلازمة، تربط بين استهداف الحاجيات الأساسية للمواطن الفلسطيني، وازدياد نسبه الدعـم للمقاومة الفلسطينية.
- الإشكال الثانى، يرتبط بالقواعد نفسها التى تنظم عمل البنية، ومخرجات الفاعلين ضمنها، وطبيعة التفاعلات التى تحكم دينامياتهم، ومدى القدرة فى التحكم فيها، أو توجيه مخرجاتها بالشكل الذى يخدم الأهداف الصهيونية والأميركية.
تتبّع التطورات الجارية، أثبت ان القدرة على التحكم فى مخرجات هذه البنية صار ممتنعًا، وأن الإدارة الأميركية اضطرت الي ان تلعب أكثر مـن دور لتأمين عنصر التوازن، وحتى لا تسير الديناميات فى مسار معاكس للإرادة الإسرائيلية.
تفكيك هذه الديناميات، يكشف تبلور تناقضات مفصلية يصعب معها التوفيق بين مخرجات الفاعلين وضبطها، وهو الامر الذى سيقود حتمًا الي تفجير النسق (البنية) ومنعه مـن تحقيق أهدافه.
يتطلب اشتغال البنية بشكل متوازن وفعال ان يتم تأمين الحشد الدولى، وضمان مساندة إسرائيل فى “دفاعها عَنْ النفس” امام “الإرهاب” الذى تشكله حركة حماس.
ويتطلب مـن جانب ثانٍ، تحييد جبهات الحرب، بالشكل الذى يتم فيه الانتباه على هـدف القضاء على حماس، وتأمين شروط حصوله.
ويتطلب مـن جهة ثالثة، تحييد الدور العربي، حتـى وإن كان الهدف الإستراتيجي يمس المصالح الأمنية الإستراتيجية لكل مـن مصر والأردن فى البدء، ومختلف الدول العربية فى النهايه.
ويتطلب مـن جهة رابعة، ان يتم التحكم فى المنتظم الدولى ومنعه مـن تحويل الوحشية الإسرائيلية اتجاه المدنيين الي موضوع إنساني يحشد المجتمع الدولى امام جرائم الحرب الإسرائيلية.
ويتطلب مـن جهة خامسة، ان يتم تأمين الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وضمان دعمها وتأييدها المطلق للحرب على غزة، وعدم تحولها الي معيق للفعل العسكري.
ويتطلب مـن جهة سادسة، إسكات صواريخ حماس، وإبطال قدرتها الدفاعية دَاخِلٌ غزة، وإضعاف أدائها الاعلامي حتـى لا تتأثر الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
ويتطلب مـن جهة سابعة، ان تكون مدة الحرب محدودة، حتـى تضمن استمرار تماسك الجبهة الداخلية وثقتها فى فاعلية التدخل العسكري، وألا تـتأثر المؤشرات الاقتصاديه، ولا يكون لها انعكاس على معاش الإسرائيليين، بالشكل الذى يؤدي وظيفة معاكسة لمتطلبات الحرب.
ويتطلب الامر مـن جهة ثامنة، ان تكون نتائـج العملية العسكرية ملموسة، يرى فيها المواطن الإسرائيلي تحقق الأهداف بشكل مقنع.
مـن الواضح تمامًا ان الاختلال فى عناصر البنية، دفع بها الي خسارة التوازن بشكل كلي، فعلى الرغم مـن الدور الأميركي- الذى برز فى شكل زيارات متكررة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لدول المنطقة لضبط الإيقاع- فإن ذلك لم يحقق إلا نتائـج جد محدودة.
فعلى الرغم مـن عدم خروج المناوشات بين حزب الله والكيان الصهيوني عَنْ قواعد الاشتباك، وعلى الرغم مـن ان الديناميات العربية المتفاوتة، لم تشكل تهديدًا لقواعد البنية، فإن أطروحة التهجير، وضعت العالم العربي- وبشكل حصري مصر والأردن- ضوء منظور مختلف، فقد أضحت الدول العربية، ترى فى تحقيق إسرائيل نصرًا على حماس بمثابة تهديد جدي لأمنها القومي، ومن ثمة، كان لتحركها مـن زاوية إدانة استهداف المدنيين وتجويعهم ومنعهم مـن الحاجيات الأساسية للحياة- فضلًا عَنْ استهداف المؤسسات الخدمية الاستشفائية والتعليمية وأماكن العبادة، ومحاولة إبادة الجمهور الفلسطيني- دور مهم فى سحـب الغطاء والشرعية عَنْ الحرب الإسرائيلية على غزة، وتحويل الموقف الدولى مـن موقف داعم لحق إسرائيل فى “الدفـاع عَنْ نفسها” الي إدانة جرائم الحرب التى ترتكبها امام الفلسطينيين.
مـن الواضح ان الشجب الدولى، وعدم استطاع إسرائيل مـن تأمين غطاء أممي أو دولي، حفزا الولايات المتحدة الأميركية الي تغيير مواقفها وتغيير بعض وظائفها، مـن التبني والاحتضان والدعم العسكري الي البحث عَنْ خيارات لإسكات الغضب الدولى عبر البحث عَنْ هدن إنسانية مؤقتة، الي محاولة إقناع القيادة الإسرائيلية، بتحويل الهدف الي وقف الحرب والاكتفاء بإجراء صفقة أسرى، تكسب منها إسرائيل عودة جنودها ومحتجزيها المدنيين.
البعد الآخر المنفلت مـن قواعد اشتغال البنية، هو الداخل الإسرائيلي، وذلك على مستوى عمودي وأفقي، فالثابت ان الصراع الذى يخترق القيادة السِّيَاسِيَّةُ مـن جهة، والعلاقات بين الجهـاز الحكومي والجهاز العسكري والأمني، فضلًا عَنْ تفكك الجبهة الداخلية، وتباين وجهات النظر التى تعبر عنها، بشأن اهداف الحرب ومدى قدرة آلة الحرب الإسرائيلية على تحقيقها، وسير المعارك على الأرض، ومدى جدية الأهداف التى يتم الإقناع بتحققها، وقدرة الجيش الإسرائيلي على استنقاذ الأسرى والمحتجزين، وتأمين المدن والمستوطنات الإسرائيلية، إضافة الي التناقض الذى حصل فى هذه القضايا، والديناميات الداخلية التى تحركت على خلفيتها، كل ذلك يشير الي ان عطبًا كثيرًا أصاب قواعد اشتغال البنية ومنعها مـن تأمين كفاءتها.
لكن، يبقى العنصر الأكثر انفلاتًا مـن قواعد اشتغال البنية، هو شكل الاستجابة الذى تبديه المقاومة الفلسطينية، وذلك على ثلاثة مستويات أساسية:
- المستوى العسكري، مـن اثناء تحقيق اهداف مؤكدة ملموسة لا مجال للشك فيها (موثقة بالصوت والصورة)، بل وزرع الشك فى قدرة التطور التكنولوجي على اعلن المعركة (إعطاب الدبابات وناقلة الجند النمر المتطورة تكنولوجيا).
- المستوى الاعلامي، سواء مـن اثناء تصوير عمليات اصابه الأهداف مـن “المنطقة صفر” وعبر الاشتباك المباشر مع آليات العدو، أو مـن اثناء اختيار المادة الإعلامية التى تؤثر فى الداخل الإسرائيلي، وتحور وظيفته دَاخِلٌ البنية مـن عامل رص للجبهة الي عامل تفكيك لها، أو مـن اثناء تحويل المعاناة الفلسطينية- لاسيما معاناة الأطفال والنساء، واستهداف المؤسسات الخدمية- الي عامل استقطاب للدعـم الدولى مـن خلفية إنسانية وحقوقية.
- ثم المستوى السياسي، وذلك مـن اثناء ادارة سياسية منسقة للمعركة، تنسف أطروحة العدو الصهيوني، ولا تدخل فى اى مناكفات مع محاور المقاومة على خلفية ضعف إسنادها، ولا تستعدي الدول العربية، وتركز بشكل كثير على مظلومية الجمهور الفلسطيني، والأهداف البعيدة للإستراتيجية الإسرائيلية- الأميركية، ووحشية وجرائم العدو الصهيوني، وتفتح أفقها للانفتاح على فاعلين آخرين، كانوا بالأمس القريب بعيدين عَنْ ساحة التضامن مع القضية الفلسطينية.
الحاصل مـن ذلك كله، ان المواطن الإسرائيلي بات مقتنعًا ان الآلة الحربية الإسرائيلية – بعد مرور أكثر مـن شهر على العدوان على غزة- لم تحقق اىًا مـن أهدافها، وأن القيادة الإسرائيلية أضحت مرتبكة مترددة تحدث أهدافها كل مرة، مـن القضاء على حماس، الي القضاء على بنيتها العسكرية، الي القضاء على عقلها المدبر يحيى السنوار، وأنها لم تنجح الي الان فى استنقاذ اى مـن جنودها الأسرى أو مواطنيها المحتجزين لدى حماس والقوى الفلسطينية، رغم استعانتها بخبرة الطائرات المسيرة الأميركية فى الاستطلاع الاستخباراتي الدقيق.
كَمَا لم تنجح فى إيقاف صواريخ حماس، ولا فى إبطاء فاعلية بنيتها العسكرية الدفاعية على أرض غزة، وأن النجاح النسبي الذى حققته على مستوى تحييد جبهات الصراع المجانية، أو تسقيف الدور العربي، لم يحُل دون ان يتحول الموقف الدولى الي مدين للهمجية الإسرائيلية ولجرائم الحرب التى ترتكبها امام الفلسطينيين.
ولهذا الغرض تسارع الولايات المتحدة الأميركية لإقناع القيادة الإسرائيلية بأنها لن تستمر الي الأبد فى لعب دور الإطفائي الذى يكثر مـن التدخل حتـى يؤمن شروط توازن اشتغال البنية، وأن الوقت لم يعد فى صالح إسرائيل ولا أميركا، وأن الخيار الذى تبقى هو ان تحقق إسرائيل أهدافها بسرعة مكوكية، أو ان تضطر واشنطن الي ان تسحب ثقتها فى القيادة الحالية، وتحملها مسؤولية السابع مـن أكتوبر بكل تداعياتها، بما فى ذلك فشل إسرائيل فى حماية مواطنيها وتحقيق انتصار فى المعركة امام حماس، وتشتغل على سيناريو قيادة إسرائيلية جديدة.
بالجملة، تثبت الوقائع، ان “أطروحة البنية” انهزمت بشكل كامل امام “أطروحة الفعل الاجتماعي”، التى يمثلها أداء المقاومة البطولي وشكل استجابة الجمهور الفلسطيني، وتمثلها أيضًا مختلف الديناميات التى تحول دون ان تشتغل قواعد البنية الصهيونية والأميركية بكفاءتها، كَمَا كان المفترض منها لحظة التنظير.