كان يـوم سبتهم، تأتيهم حيتانهم شُرّعا، يقيمون صلوات الهيكل، تهتز الرؤوس تحت القبعات الصغيرة، غير ان سبت السابع مـن أكتوبر 2023 كان على غير ما توقع اليهود.
عَمِيت عليهم الأنباء فهم لا يتساءلون ولا يترقبون هذا الحجم الكبير مـن الدمار، اما فى غزة فقد أبرم الامر بليل، وقررت كتائب القسام ان تقتحم “الجدار الحصين”، ليعبر اللظى الي المستوطنات الغافية.
خرج القوم لا يلوون على شيء، كانـت ملابس النوم تشي بالمباغتة، ومن الكبار مـن سحـب مـن غرفه نومه، ليجد نفسه يقتاد الي غرف مظلمة قد يطول فيها انتظاره.
وبين عبور جدار غزة واقتحام خط بارليف 50 عاما، شابت فيها رؤوس المشاركين فى العاشر مـن رمضان وانحنت كثيرا ظهور مـن بقي منهم قبل ان يسمعوا عَنْ عملية عسكرية مشابهة تذكرهم بتلك الأيام التى طمرتها عقود السلام والتطبيع.
وقد باينت الأيام والسنون الـ50 الفاصلة بين الحدثين الراسخين فى الذاكرة العربية، ولكن وحدت بينهما مشتركات مـن بينها العدو الموحد، والإقدام الأسطوري، فبين الحدثين واليومين أرحام موصولة وأوجه شبه تنتفض بين التفاصيل ومن تحت لألاء اللهيب. ومن أوجه التشابه تلك:
تدمير أسطورة الجدار
كان الجدار فى الحادثتين عاملا مشتركا، وكان حجم التهويل مـن خطورة وقوة هذا الجدار وكونه غير قابل للاختراق جزءا مـن الحرب النفسية التى طالما مارسها الإسرائيليون امام خصومهم العرب، كان جدار بارليف قويا للغاية كلف إسرائيل 500 مليون دولار مـن اجل بنائه، قبل ان تتبلور فكرة إذابته لدى البطل المصرى الْمُهَنْدِسُ اللواء باقى زكى يوسف الذى اقترح إذابة الساتر الرملي للجدار مـن اثناء مضخات المياه، وهكذا انطلقت نوافير المياه برشاقة الطوفان لتدمر أجزاء عملية مـن الجدار، ولتزرع القذائف بعد ذلك أكثر مـن 80 فرجة مكنت الجيش المصرى مـن إحراز اهم نصر فى تاريخ المواجهة بين العرب والإسرائيليين.
حمل الحصن اسم القائد العسكري حاييم بارليف، وامتد 12 كيلومترا دَاخِلٌ جزيرة سيناء، وعلى جوانبه أقيم 22 موقعا دفاعيا بطول 170 على طول قناة السويس، إضافة الي منصات لإطلاق الصواريخ ومرابض للدبابات، ومحطات اتصال لا سلكي.
اما الجدار الذكي فيمتد على طول 65 كيلومترا على طول غزة، وينتهي الي البحر منعا للمقاومة مـن حفر أنفاق تحت الماء، بينما يرتفع الي 10 أمتار، ويمتد عمقا لأكثر مـن 25 مترا تحت الأرض، واكتسب الجدار صفة “الذكاء” مـن حجم الرقابة التقنية المحيطة به مـن كاميرات ومجسات وأجهزة تحسس، وقد كلف الجدار إسرائيل أكثر مـن مليار دولار، واستغرق تشييده 3 اعوام، لكنه نال كيفما نال جدار بارليف، وكسرته سواعد قوية زرعت الموت فى قرى غلاف غزة، وأخرجتهم مـن بيوتهم فى رعب مرير.
المباغتة سر الانتصار
أخذ عنصر المباغتة جزءا أساسيا مـن تحطيم القوة الإسرائيلية، ففيما كان الجنود الإسرائيليون فى بارليف مستمعتين بعيد الغفران عَامٌ 1973، دوى الرصاص المصرى والسوري مـن كل حدب، وترامى القتلى والأسرىن وبقيت إسرائيل فى دهشة استمرت 6 أيام قبل ان يتدخل الدعـم العسكري الأميركي لإقامة جسر جوي يمنع مـن توسيع النصر العربي.
اما فى حالة السابع مـن أكتوبر فقد كانـت المباغتة جزءا مـن خطة الدفـاع، حيـث أعطت حماس الانطباع لإسرائيل بأنها غير راغبة فى موجة جديدة مـن القتال، اما تل أبيب فقد كانـت غارقة فى نوم ثقيل مـن الاطمئنان العسكري، قبل ان يحرق الفجر اللاهب حالة الأمن المزيفة.
أعياد الغفران والعرش
جمع السبت الحارق أيضا بين الحدثين، فقد كان فى بارليف أول أيام عيد الغفران (الكيبور) أقدس أعياد اليهود، اما فى الفجر الغزاوي فقد كان آخر أيام عيد العُرش الأثيرة أيضا عند اليهود.
وكما كان البعد الديني أيضا حاضرا لدى المصريين والفلسطينيين، حيـث كانـت التكبيرة شعار مقتحمي خط بارليف، بينما الصدى نفسه شعارا لمقتحمي الجدار الذكي، ليكون الدين عنصرا أساسيا فى صناعة النصر وتجرع سطوة الخسارة.
وكما دوى التكبير على الجبهات عند اقتحام الجدارين، فقد دوت زغاريد النصر والاحتفاء فى عَدَّدَ مـن العواصم العربية احتفالا بالانتصار الذى يأتي فى ضوء مستمر مـن الهزائم.
ولإن جمع السبت بين الحدثين، فقد كان شهر أكتوبر/تشرين الاول وعاء زمنيا للحدثين، حيـث جرى اقتحام بارليف فى السادس، بينما جرى عبور سياج غزة فى السابع مـن الشهر ذاته.
حجم القتلى والأسرى
لم يستقر بعد عداد القتلى والجرحى والأسرى الإسرائيليين فى هجـوم “رأس الحربة” غزة، ولكنه لا يستبعد ان يقترب مـن العدد الذى سقط فى حرب عَامٌ 73، خصوصا إذا قررت إسرائيل شن حرب برية على القطاع.
ففي حرب بارليف اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل أكثر مـن 2800 مـن جنودها وأسر أكثر مـن 500 آخرين، بينما لا يزال العدد الإجمالي للقتلى والأسرى الإسرائيليين مجهولا حتـى اللحظة فى اثناء التغير المستمر فى الأرقام والحصيلة التى تقدمها الجهات الإسرائيلية الرسمية. اما الفلسطينيون فقد فقدوا لحد الان قرابة 400 شهيد، وأكثر مـن ألفي جريح.
الحسرة الإسرائيلية
تجرع الإسرائيليون المرارة، وظهر ذلك فى تصريحاتهم وكتاباتهم، فقد كتب إيهود باراك الذى أصبح بعد ذلك رئيسا للوزراء وفق ما نقلت عنه بي بي سي “لقد كانـت الوجوه شاحبة كأنما يعلوها التراب، فقد كانـت هذه اللحظة هى الأشد قسوة اثناء الحرب، وبعد ذلك بدأت القوات الإسرائيلية فى دخول المعارك وكسب السيطرة على مساحات مـن الأراضي، لكن فى ذلك اليـوم ضاع أثر نصر 67 النفسي وضاع شعور ان الجيش الإسرائيلي لا يهزم”.
وفكرت غولدا مائير فى الانتحار بعد ان سقطت هيبة جيشها فى الحضيض، وارتفع مؤشر العزة العربي فى أصقاع عديدة، عادت الابتسامة الي الوجوه الشاحبة، ورفع الجيش المصرى اللواء عاليا فى قلوب وشرايين بلاد العرب.
اما فى غزة فقد وصف المحللون الإسرائيليون ما جرى بالهزيمة المذلة لهم، والانتصار الخاطف لحماس.
وتحدث هؤلاء عَنْ حالة الصدمة التى اجتاحت إسرائيل، ومن بينهم المحلل العسكري ألون بن دافيد الذى اعلن إن “هناك صعوبة فى فهم ما حدث، فلم يترقب أحد فى إسرائيل حرب يـوم غفران ثانية، وبالذات مـن غزة”.
فروق متعددة
رغم أوجه التشابه المتعددة، فإن فروقا كثيرة تبرز بين الحدثين الكبيرين.
– ففي اقتحام خط بارليف كانـت هنالك خطة عربية موحدة، وجيوش عربية تقاتل جنبا الي جنب فى مواقع قتال متعددة، اما فى عبور جدار غزة، فإن كتائب المقاومة فى غزة تقاتل لوحدها دون سند، بل تجد نفسها فى مواجهه حصارات دولية متعددة.
كان العاشر مـن رمضان حربا بين دول، اما فى حالة فلسطين الان فهي حرب مفتوحة بين تنظيم ومدينة، ودولة مـن ورائها العالم الغربي كله.
– أضافت المقاومة عنصرا جديدا الي سلاحها وهو تطوير التقنية، رغم الحصار الشامل منذ قرابة 20 سنة، وكان العنصر الأكثر خصوصية فى ذلك الفجر اللاهب هو حجم العملية واتساعها، حيـث استقبل سكان قرى وبلدات غلاف غزة، لهب الموت مـن البر والبحر والجو.
– ضربة لمسار التطبيع: وقد سارع العديد مـن المحللين والمراقبين الي التأكيد على ان حدث السابع مـن أكتوبر، سيلقي بظلاله بقوة على مسار التطبيع مع إسرائيل، حيـث يمكن القول إن كثيرا مـن مبادرات السلام والتطبيع قد سقطت أو أخذت طريق التجميد بسـبب المتغير الذى ستفرضه أحداث السابع مـن أكتوبر دوليا، وما ستجيشه مـن مشاعر غضب قوية فى العالم العربي.
– لم يطل استمتاع المصريين بالنصر، فبعد اعوام قليلة تبادل الرئيس المصرى أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحيم بيغن، كؤوس السلام فى كامب ديفيد، ليبدأ عهد مصرى جديد، اما فى الحالة الراهنة، لا يبدو ان السلام مرتقب بين الطرفين، بل لا يبدو ان لغير الرصاص والفجر اللاهب اى دور فى صناعة مشهد ما بعد السابع مـن أكتوبر.