الاخبار العربية والعالمية

السلاح الاقتصاديّ وحرب غزّة.. رؤية تحليليّة | آراء سام نيوز اخبار

الاقتصادُ سلاحٌ يستخدم بتوسّع حاليًا على صُعُدٍ متعدّدة، وتتنوّع الأسلحةُ الاقتصاديّةُ ما بين العقوبات، والحظر التّجاريّ والمقاطعة. وقد ذهبت مراكز صناعة القرار، والأبحاث السياسيّة فى الغرب الي انَّ السلاح الاقتصادي يعتبر تهديدًا لا يقاوم، ويمكن ان يركّع الطرف الآخر دون قطرة دم واحده، واعتبره الغرب وسيلةً بديلة للحرب، لكنّها حرب خانقة قد تؤدّي الي اليأس.

الان ومن 7 أكتوبر وغزّة تحت حصار اقتصادي خانق جاء الى إسرائيل، فمن أين أتى هذا وشُرعن لإسرائيل جاء الى الغرب؟

بدأ هذا مع الحرب العالميّة الأولى، حينما حاصر الحلفاء ألمانيا عبر منع استيراد الأغذية والمنتجات الأوليّة؛ كمدخلات للصناعة الألمانيّة، مثل، المعادن كالمنجنيز، والتي كانـت لندن مركزَ تجارتها دوليًا، هنا جرى استغلال نقاط الضعف الاقتصادي جاء الى الخَصم الذى لا يرحم، فحُرمت ألمانيا وحلفاؤها مـن المزيد تحت الحصار، فكان ردّ فعلها عبر حرب الغواصات لشلّ حركة الشحن عبر ضفتَي المتوسط، لكنّ هذا كله كان يتم عبر حسابات مادية براجماتيّة بحتة، فغالبًا ما تكون العقوبات غير قابلة للتنبّؤ بعواقبها، فعندما صنّفت الولايات المتحدة الأميركية شركة روسال عملاق صناعة الألمنيوم الروسيّة والقريبة مـن دوائر الحكـم فى روسيا، لم تتوقّع كيف يمكن ان يؤدّي ذلك الي تعريض اقتصاد حلفائها فى أوروبا الغربية للخطر، والأخطر مـن ذلك هو انّ صنّاع السياسات الأميركيّين لا يعرفون كيف ستردّ روسيا، حيـث إنّ فلاديمير بوتين حساباته مختلفة عَنْ حسابات الغرب، فهو لا يضع المصلحة الاقتصاديه فوق كل شيء طبقًا للبراجماتيّة الغربية، وموازنة العقوبات مقابل الخسائر الماديّة، بل يعتبر انّ روسيا تتعرّض الي تهديد وجودي يتطلب ردًا عسكريًا، هنا نرى دُوّامة مـن انعدام الأمن لا يمكن التنبّؤ بنهايتها. وهذا ما حدث فى حرب غزّة الاخيره بسـبب الحصار الإسرائيلي لسنوات، فهناك انعدام للأمن والاستقرار فى دُوّامة مـن العنف لا نهاية لها.

السلاح الاقتصادي فى غزة

لقد أحدث السلاح الاقتصاديّ جراحًا فى غزة ليس سهلًا علاجُها، ومن الصعب على الساسة فى الغرب ان يتصوّروا كيف يؤثر هذا على الإنسان، وكيف يولّد غضبًا لا شفاءَ منه.

إنَّ سلاح العقوبات الاقتصاديَّة الصارم الذى دأب الغرب على استخدامه تبّنته إسرائيل امام غزّة، وهو نظام يقومُ على قيود تفرضها الدول على تداول بعض المنتجات أو السلع أو الخدمات، وكل ذلك له آثار على الدول والشركات والأفراد على المدى البعيد، ما يفرض إعادة التفكير فى هيكلة النظام الاقتصاديّ العالميّ مرّة أخرى لنزع هذا السلاح مـن يد الولايات المتحدة وأوروبا، للحدّ مـن نفوذهما دوليًا. إنّ خطورة الوضع الدولىّ الحالي تكمنُ فى نظام مقاصّة الدولار، فبوسع الولايات المتّحدة إخراج الشركات الأجنبية متعدّدة الجنسيات، وحتى الدول متوسّطة الاقتصاد مـن الأنظمة المركزيّة للاقتصاد العالميّ، هنا سُلطة الدولة الواحدة باتت بحاجة لمُراجعة، وهذا ما ولّد تجمّع “البركس”، ومعاملات نقديّة مباشرة بين بعض الدول لتفادي هذا النّظام.

إنّ قرار أوروبا والولايات المتحدة بإخراج روسيا مـن النظام المالي العالميّ- مـن اثناء حرمان البنوك المركزية مـن الوصول الي “سويفت”، ومقاصة الدولار، وتجميد أصول البنوك المركزية- يؤدي الي تشوهات فى الاقتصاد الدولى، وحذر شديد مـن عَدَّدَ مـن الدول الصاعدة مـن خارج التحالف الغربي، ما يولّد معاملات اقتصادية لتجاوز النظم المركزيّة الغربية الاقتصاديه المهيمنة. ولكنْ هل هناك ردود فعل تجاه هذه العقوبات والحظر التجاريّ لبعض المنتجات؟

إنَّ سلاحَ العقوبات يقابلُه سلاح المقاطعة، وهو طريقة نموذجي للمواجهة والمقاومة تستخدمه الشعوب كي تنال حريتها واستقلالها، والمقصود هنا المقاطعة بشكل عَامٌ مع الطّرف المطلوب مقاطعته، والتأثير عليه سياسيًا أو إضعافه عسكريًا واقتصاديًا، هذا ما أرساه المهتاما غاندي، حينما طلب مـن الهنود ان يقاطعوا المنسوجات البريطانية المصنوعة مـن القطن الهندي، وأن ينتجوا ملابسهم بأنفسهم، فكان سلاحًا ناجعًا، وهذا ما خنق إسرائيل لسنوات فى اثناءّ المقاطعة العربية مـن عَامٌ 1948م، ففي سنة 1948 م صدرت فتوى مـن الأزهر الشريف جاء فيها: (تحريم بيع أراضي فلسطين لليهود ووجوب مقاطعتهم..)، هذه الفتوى تلاها عدة بيانات ومواقف للأزهر تساند فلسطين فى كل المواقف، لكن كان الإجماع العربي فى الخمسينيات بمقاطعة إسرائيل ومن يتعاون معها اقتصاديًا بدايةً لشهْر هذا السلاح، وكان ابرز إنجازاته قرار مجلس جامعة الدول العربية فى عَامٌ 1975 بمقاطعة خطوط طيران أيرفرانس بسـبب استثماراتها فى مشروعات تنموية إسرائيليّة، وتوقفت أنشطة الشركة فى القاهره ودمشق وهو ما أدَّى الي رضوخها للمطالب العربيّة.

أكبر أداة ضغط عربية

لعلّ قطع البترول عَنْ الدول الأوروبية التى تدعم إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة إبان حرب أكتوبر 1973، كان أكبر أداة ضغط عربية استخدمت امام إسرائيل، لكن بعد عَامٌ 1977 شهدت المقاطعة العربية لإسرائيل حالة تراخٍ متصاعدة، ليعود مرة أخرى سلاح المقاطعة للواجهة منذ انتفاضة سنة 2000 فى الضفة الغربية، وما ترتّب عليها مـن مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، فالسوق الفلسطيني ثاني أكبر سوق لها، وقد صدر تقرير إسرائيليّ فى مارس 2001 يشير الي هبوطٍ قدره 50% على الصادرات الإسرائيلية الي مناطق السلطة الفلسطينية. هذا ويمكن ان نقدّر فى هذا السياق موقف الاتحاد الأوروبي مـن مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، فقد امتنع عَنْ استيرادها باعتبارها لا تخضع لاتفاقية التجارة الحرّة مع إسرائيل، فلجأت إسرائيل لتزييف شهادة المنشأ.

لكن حرب غزّة الاخيره أفرزت لأوّل مرة جبلًا شابًا لم يكن يعلم جاء الى ما هى فلسطين وما هى مأساتها، غير ان مشاهد الدم جعلت الشعور بمأساة فلسطين يتدفّق فى شرايينه، وما زاد الامر تدفقًا هو العجز العربيّ عَنْ إنقاذ غزة، فتعالت أصوات المقاطعة فى الدول العربية الإسلامية. وبتحليل خطاب المقاطعة فى وسائط التواصل الاجتماعيّ سنجد انّ الشريحة مـن 20 عَامًٌا الي 45 عَامًٌا هى الأكثر تفاعلًا مـن الأجيال الأكبر، وخاصة مـن تعدوا الستين عَامًٌا والذين عاصروا حرب 1973، وحصار بيروت واجتياح لبنان ومذبحة صبرا وشاتيلا عَامٌ 1982، وكأن الحرب الاخيره خلقت جيلًا يرى إسرائيل عدوًا حقيقيًا يجب مواجهته، وظهر سلاح المقاطعة كحلّ يمكن مـن خلاله دعـم القضية الفلسطينية، ليبقى التساؤل: هل هذه المرّة حملات المقاطعة مختلفة؟

فى حقيقة الامر مختلفة، فهي تتجاوز فكرة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية ومقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل الي مقاطعة بضائع الدول التى أعطت غطاءً لإسرائيل لقتل المدنيين فى غزة، بدءًا مـن الولايات المتحدة الأميركيّة الي دول اوروبية، مثل: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا، ويبدو فى الأفق فى بعض هذه الدعوات اتجاهٌ الي إعادة النظر فى مكانة هذه الدول فى المنطقة العربية فبعد ان كانـت تحظى بمكانة وتقدير، بات هذا محلّ تساؤلات، ليبقى التساؤل: كيف ستنظر هذه الأجيال مستقبلًا لها؟، إنّ مـن المثير أيضًا وجود دعوات فى مجموعـات خليجيّة فى وسائط التواصل الاجتماعي (مجموعـات واتساب) لمقاطعة السيّاح الخليجيين زيارة لندن؛ عقابًا لبريطانيا على دعمها إسرائيل الذى شمل أسلحة لقتل المدنيين فى غزة، بل ذهب البعض لرصد حجم إنفاق السياح الخليجيين فى لندن وأعدادهم، ليذهب البعض بعيدًا الي ضرورة سحـب الاستثمارات العربيّة فى بريطانيا، أو وقف ضخّ استثمارات جديدة، قد يكون هذا كله نتاجَ الحماس والضغط الذى تسبّبه الْمُشَاهِدِينَ الدموية المنقولة مـن غزة.

إرادة قوية

إنَّ العديد مـن الدراسات المسحيّة تبين انَّ اى دعوات للمقاطعة قد تراوح مكانها، وبالتالي يظل تأثيرها لا يعدو كونه تهديدًا، وعادة لا يكون للمقاطعة تأثير اقتصادي كثير على المدى القصير؛ بسـبب التعقيد فى السوق العالميّ، وتنوع الصادرات فى معظم الدول، الامر الذى يجعل التأثير عليها صعبًا. وعلى جانب آخر تمثل استمرارية المقاطعة باعتبارها إرادة قوية سلاحًا مؤثرًا. مـن هنا فإنَّ سلاح المقاطعة لابدّ ان تكون له قوّة الاستمرار، وهذا ما قد يغيّر مواقف الدول المساندة لإسرائيل.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى