يـومًا بعد يـوم؛ يتأكد للقاصي والداني، ان حرب الإبادة الجماعية التى يقوم بها الكيان الصهيوني امام الجمهور الفلسطيني فى قطاع غزة، هى حرب أميركية بالدرجة الأولى، وأن الولايات المتحدة توشك ان تصرّح بأن عدم تحقيق الحرب اهدافَها، هو بمثابة خسارة كبرى لها لا تقل عَنْ هزيمتها فى فيتنام وأفغانستان.
ولم يعد العالم بحاجة الي أدلة وبراهين أكثر مـن ذلك، على ان الإدارة الأميركية، تتقاسم المسؤولية مع الكيان الصهيوني؛ عَنْ جميع النتائج والآثار التى خلفتها وتخلفها هذه الحرب فى قطاع غزة؛ بزعم “محاربة الإرهاب مع احترام القانون الدولى والإنساني”.
ومهما تأخر يـوم الحساب، فإن المؤكد ان التحالف الصهيو-أميركي لن ينجو مـن لعنة غزة القادمة. لقد صمد قطاع غزة بشعبه ومقاومته فى وجه الحرب الصهيو-أميركية؛ صمودًا أسطوريًا، على مدى الشهرَين الماضيَين، ويبدو أنه لا يفصله عَنْ النصر القادم فى هذه الحرب سوى نهاية الشهر الثالث، بفعل العوامل الحاسمة التى يملكها، ولم يستطع الدمار ان ينتزعها منه، فما هى هذه العوامل الحاسمة؟
إن الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني فى قطاع غزة أفشل المخطط الصهيو-أميركي بتفريغ قطاع غزة وضمه الي الكيان الصهيوني، وإن استمرار هذا الصمود هو العامل الحاسم الاول فى دحر العدوان
تحدثنا فى المقال السابق عَنْ التحدي الذى تواجهه حركة حماس فى مواجهه اهداف التحالف الصهيو-أميركي، القاضية بالقضاء على حماس، وضمان ألا يشكّل قطاع غزة تهديدًا للكيان الصهيوني فى المستقبل، وتحرير الأسرى والمختطفين، فى ضوء انسداد الأفق السياسي، والعجز العربي والإسلامي والدولي، والارتفاع المتزايد لتكلفة الحرب، وخاصة فى صفـوف الأطفال والنساء والمدنيين، والنتائج النهائيه الخطيرة المتوقعة على مستقبل قطاع غزة.
استعرضت عَدَّدًَا مـن المقترحات التى قد تساعد حماس على مواجهه هذا التحدي فى المجال السياسي، والتي يبدو بعضها عبثيا يصعب عليها القيام به، مثل تبنّي حل الدولة الواحدة للشعبين: الفلسطيني واليهودي، رغم قدرة هذا الطرح الهائلة على إحداث انقلاب شامل فى القضية الفلسطينية والصراع العربي- الصهيوني، بل والمشروع الصهيوني برمته.
ونظرًا لتسارع التطورات الميدانية والسياسية، نقصر حديثنا- فى المجالين: العسكري والشعبي- على العوامل الحاسمة التى تمتلكها حماس فى هذين المجالَين، والتي قد تكون قادرة بها على مواجهه التحدّي وتحقيق النصر.
الصمود الأسطوري
يعتبر الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني فى قطاع غزة، هو العامل الأكبر فى مواجهه حرب الإبادة الجماعية التى يشنها التحالف الصهيو-أميركي منذ أكثر مـن شهرين، وإفشال مخططاته فى تفريغ قطاع غزة وضمه للكيان الصهيوني.
وقد تجلّى هذا الصمود بينما يأتي:
- مواجهه آلة الدمار الصهيو-أميركيّة بصدور عارية، وهم يعلمون تمامًا ان هذه المواجهة تعني تدمير منازلهم فوق رؤوسهم ورؤوس نسائهم وأطفالهم، خصوصًا بعد ان رأوها عيانًا فى منازل وأسر جيرانهم. وقد شاهدنا فى حروب عديدة كيف هُرع السكان المدنيون منذ الساعات الأولى للحرب الي مغادرة بلادهم؛ هربًا مـن ويلات الحرب.
- عدم الانصياع كليًا لتعليمات الكيان الصهيوني الخاصة بالخروج الي الجنوب باتجاه الأماكن التى وصفها بأنها آمنة، إلا ان الأخطاء العملياتية لقوات الكيان الصهيوني امام النازحين؛ عزّزت مقولة: (لا يوجد مكان آمن فى قطاع غزة)، وزادت مـن إصرارهم على البقاء فى منازلهم رغم الأهوال المرعبة التى تنتظرهم.
- لم يتّجه السكان النازحون- مـن مناطقهم تحت وطأة الدمار المتواصل- الي الحدود؛ هربًا مـن الموت، وإنما انتقلوا فى الغالب؛ الي أماكن الإيواء الذاتية كالمدارس والمستشفيات، أو الي منازل الأقارب التى يعتقد أنها أكثر أمنًا، وكثيرًا ما كان هذا النزوح لملاقاة مصيرهم.
- لم يخرج سكان قطاع غزة للتظاهر امام حماس وفصائل المقاومة المسلحة، بل كانـت العبارات المتكررة على ألسنة مـن دُمرت منازلهم واستشهد أحبابهم، مليئةً بالإيمان والاحتساب والتضامن مع المقاومة؛ مـن اجل دحر الاحتلال.
- لم يقتصر الصمود والثبات على تحمل القصف والدمار فحسب، بل أيضًا تحمل الجوع والعطش، والنزيف والجراح المجانية والأشلاء، ونقص الدواء والماء والملبس، وضيق المأوى، والقنص، والانفجارات التى تنزع القلوب مـن صدورها، وركام الدمار، والجثث التى لا تجد مكانًا تدفن فيه، وغير ذلك مـن جوانب القسوة والرعب والمآسي التى تعجز عَنْ تحملها الجبال الشمّاء.
إن هذا الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني فى قطاع غزة، وهذا الالتفاف حول حماس والمقاومة؛ لأكبر ردّ على الأكاذيب التى تطلقها أجهزة الدعاية الصهيو-أميركية امام حماس والمقاومة، وأنها تحتمي بالمدنيين وتمنع نزوحهم الي الأماكن الآمنة.
هذا الالتفاف حول المقاومة والتضامن معها، يبدو ذلك طبيعيًا جدًا عندما نعرف ان مـن بين كل 10 شباب فى قطاع غزة، يوجد شابٌ واحد على الأقل منخرطٌ فى صفـوف المقاومة، ولا تكاد توجد أسرة فى قطاع غزة ليس لها ابن أو قريب فى صفـوف المقاومة.
إن هذا الصمود أفشل المخطط الصهيو-أميركي بتفريغ قطاع غزة وضمه الي الكيان الصهيوني. وإن استمرار هذا الصمود هو العامل الحاسم الاول فى دحر العدوان.
مـن المتوقع بسـبب استمرار صمود الجمهور الفلسطيني فى قطاع غزة، ونجاح المقاومة فى تحويل قطاع غزة الي مصيدة كبرى لقوات الاحتلال الصهيوني؛ ان يكون الشهر الحالي هو الشهر الأخير للحرب، وأن يشهد النصف الثانى منه انتصار المقاومة
المصيدة الكبرى
اما العامل الثانى الأكثر اعلنًا فى معركة المواجهة امام حرب الإبادة الصهيو-أميركية فى قطاع غزة؛ فهو مواصلة الانتباه على إسقاط أكبر عَدَّدَ ممكن مـن ضباط وجنود الاحتلال الصهيوني بين قتيل ومعاق إعاقة دائمة.
لقد أذهلت حماس وفصائل المقاومة المسلحة فى قطاع غزة العالم، ببسالتها وبطولتها ومهاراتها القتالية فى معاركها امام التحالف الصهيو-أميركي الذى يلاحقها مـن البر والبحر والجو، حيـث لم تكن إسرائيل تتوقع ان يسقط مـن قواتها هذا العدد مـن القتلى والجرحى، أو ان تنجح المقاومة فى تدمير هذا العدد الضخم مـن الدبابات والآليات العسكرية المتفوقة. وهو ما يصيب قيادة جيش الاحتلال بالتخبط والجنون والفزع، مـن هول ما يجري فى ميدان المعركة، ومن هول النتائج المترتبة عليه؛ دَاخِلٌ المجتمع الصهيوني والجيش والمؤسسة الصهيونية وحلفائها فى العالم.
إن تتابع قوافل النعوش والمعاقين مـن قطاع غزة الي الكيان الصهيوني، سيزيد مـن حشد الرَّأْي العام الصهيوني وأحزاب اليسار ويسار الوسـط مـن اجل المطالبة بإيقاف الحرب.
وستتحول الحشود المتضامنة مع أسر المختطفين والأسرى الي مظاهرات كبيرة تطالب بالإيقاف الفوري لإطلاق النار، وإجبار قيادة الحرب الصهيو-أميركية على إيقاف الحرب، والعودة الي المربع الاول، مربع التفاوض مع حماس عَنْ طريق الوسطاء. وهذا يعني انهيار جميع الخطط التى يتحدث عنها التحالف الصهيو-أميركي وحلفاؤُه لما بعد حركة حماس فى قطاع غزة.
هذه المعطيات تجعل مـن أولويات حماس فى الأيام القليلة القادمة، تحويلَ قطاع غزة الي مصيدة كبرى لقوات الكيان الصهيوني وآلياته، بصورة مضاعفة عما كانـت عليه الحال فى الأيام السابقة، بحيث تجبر التحالف الصهيو-أميركي على الإذعان لمطالب العالم بإيقاف القتال.
لم يبقَ امام التحالف الصهيو-أميركي المزيد ليحققه فى حرب الإبادة الجماعية التى يقوم بها فى قطاع غزة، ولن يحصد فى الأيام القادمة سوى المزيد مـن الدمار والمآسي فى صفـوف المدنيين الفلسطينيين الصامدين المصرّين على الانتصار مهما بلغت التضحيات.
ومن المنتظر بسـبب استمرار هذا الصمود، ونجاح المقاومة فى تحويل قطاع غزة الي مصيدة كبرى لقوات الاحتلال الصهيوني؛ ان يكون الشهر الثالث (الحالي) هو الشهر الأخير للحرب، وأن يشهد النصف الثانى منه إيقاف الحرب، ليس بطلب مـن مجلس الأمن أو استجابة لمناشدات المنظمات الدولية والإقليمية، وإنما بسـبب تزايد الضغط دَاخِلٌ التحالف الصهيو-أميركي، وهو ما يعني فشله فى تحقيق أهدافه وانتصار المقاومة.