“المقاومة تزداد شراسة”.. لماذا تحدث إسرائيل عقيدتها العسكرية؟ سام نيوز اخبار
ما وُصف بأنه أكبر فشل أمني واستخباراتي وعسكري لدولة الاحتلال منذ حرب أكتوبر 1973 لم يكن مجرد مباغتة ممتازة، بل خطة مركبة استمرت لمدة عامين، بدأت بذكاء استخباراتي مـن ناحية حماس بحيث أقنعت استخبارات دَوْلَةٌ الاحتلال أنها أُنهكت مـن القتال، بينما يقوم مئات المقاتلين بتدريبات متقدمة لما سيصبح بينما بعد عملية “طوفان الأقصى”.
ثم فى اثناء العملية نفسها بدأت موجة أولى مـن الصواريخ تلاها استهداف لمراكز القيادة والسيطرة والاتصالات ثم اختراق استثنائي بمظلات طائرة تعمل بالمحركات تُستخدم أصلا مـن قِبل هواة الطيران الشراعي، كل ذلك تم تصويره وبثه على الإنترنت فى اثناء قيام المعركة على الأرض للأغراض الإعلامية.
لكن لا تظن ان هذه كانـت المرة الأولى التى تفاجأت فيها قوات جيش دَوْلَةٌ الاحتلال الإسرائيلي بإمكانات المقاومة، فى الواقع فإن الاحتلال منذ اعوام يعرف ان المقاومة لن تزداد إلا تطورا وقوة (1)، ولنبدأ بالحرب على غزة فى مايو/أيار 2021، التى نشأت بعد ان قررت المحكمة الإسرائيلية العليا إخلاء منازل سبع عائلات فلسطينية فى حي الشيخ جراح فى القدس وإعطاءها لمستوطنين يهود، عكست هذه الحرب امام حماس واقعا جديدا يعاني الإسرائيليون للتكيف معه الي اليـوم.
إنهم يقتربون مـن اللحظة الحاسمة
تقديم صحفية: كتيبة الــعــيــاش تعلن الاعلان صاروخ قــســام 1 على مستوطنة “شاكيد” غرب جنين. pic.twitter.com/HXcXdHT6gF
— المركـز الفلسطيني للإعلام (@PalinfoAr) August 15, 2023
تشير التقديرات (2) الي ان حماس اطلقت اثناء هذه الحرب نحو 4300 صاروخ على اهداف إسرائيلية على مدار 11 يوما متتالية، فى قفزة كانـت مفاجئة بالنسبة للإسرائيليين، ليس فى عَدَّدَ الصواريخ فقط لكن الأهم فى دقة الهجمات، فما يقدر بنحو 50% مـن الصواريخ التى أُطلِقت سقطت فى مناطق مأهولة بالسكان مقارنة بـ22% فى عَامٌ 2012 و18% فى عَامٌ 2014.
ولكي نفهم ما حصل دعنا نرجع بالتاريخ الي أوائل الألفية، حيـث تمكنت حركة حماس مـن تطوير الصاروخ “قسام 1” بقدرات متواضعة جدا؛ أسطوانة فولاذية بوزن 35 كيلوغراما فقط وطول أقل مـن مترين ووزن 1.5 كيلوغرام للرأس الحربي ومدى يصل الي كيلومترين ونصف، تطور اثناء الإطلاقات الأولى على إسرائيل الي ما بين 3-4.5 كيلومترات فقط.
صُنع الصاروخ مـن مكونات محلية تماما فى غالبها؛ مزيج صلب مـن السكر ونترات البوتاسيوم، والأخير هو سماد شائع، بالإضافة الي مادة تي إن تي ونترات اليوريا فى الرأس الحربي، والأخير هو ايضا سماد شائع آخر، كانـت تكلفة بناء هذا الصاروخ نحو 800 دولار فقط وقتها، وهي تكلفة ضعيفة جدا فى هذا النطاق.
الان قارن ذلك بصاروخ “عياش 250” الذى استهدفت به حماس “مطار رامون” على بُعد 220 كيلومترا اثناء حرب 2021، إنه الصاروخ صاحب أطول مدى الي الان فى ترسانة حماس (250 كيلومترا) وصاحب أقوى تأثير تدميري على الأرض.
وإذا راقبت التتالي الزمني لتطور صواريخ المقاومة فسوف تلاحظ ان ما يُخيف الإسرائيليين ليس فقط تصاعد المدى ولكن زيادة الدقة ايضا، والتسارع فى التطوير، فحجم الإنجاز الذى يحققه الفلسطينيون فى عَامٌ يتضاعف فى العام الذى يليه، منذ “قسام 2” فى 2002 بمدى 9 الي 12 كيلومترا، الي “قسام 3” فى 2005، بمدى 15-17 كيلومترا، الي “إم 75” فى 2012 بمدى يصل الي 80 كيلومترا، الي رنتيسي 160 فى العام نفسه ويصل مداه الي 160 كيلومترا، وهذه فقط أمثلة.
ولهضم قدر التطور الذى أحرزته حماس والمقاومة بشكل عَامٌ مؤخرا فقط تأمل البيانات التالية: أحصت إسرائيل أكثر مـن 2500 صاروخ أُطلِقت مـن قِبل حماس صباح يـوم السبت الماضي وحده (صباح يـوم عملية طوفان الأقصى)، وهذا يعادل تقريبا أربعة أضعاف (3) الرقم القياسي السابق فى يـوم واحد وهو 670 صاروخا، فى حرب 2021! بل وسجلت دَوْلَةٌ الاحتلال وابلا بمعدل 137 صاروخا على تل أبيب فى أقل مـن خمس دقائق.
مع هذا المعدل، والإمكانات التى تضاف الي الصواريخ القادمة مـن حماس بحيث تساعدها على التخفي مـن القبة الحديدية وتضيف الي دقتها، فإن المقاومة الفلسطينية ربما تقترب عاما بعد عَامٌ مـن اللحظة الحاسمة، تلك التى ستُحيَّد فيها القبة الحديدية تماما، وسوف يغير ذلك مـن كل شيء.
المسيرات: جحيم للسماوات الإسرائيلية
على جانب آخر، باتت المقاومة الفلسطينية تعتمد بشكل متزايد على المسيرات وخلال الحرب فى 2021 اعترضت القبة الحديدية 6 وحدات منها، بينما أسقطت طائرة أخرى مـن طراز “إف-16” تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي مجموعه أخرى، ولم تمثل خطورة كبيرة فى تلك الأثناء، يعيدنا ذلك (لغرض المقارنة) الي عملية طوفان الأقصى، حيـث تشير مقاطع الفيـديو التى نشرتها حماس الي ان أسطولا مـن المسيرات قليلة الصنع ساعد فى تمهيد الطريق لهجومها الضخم.
اثناء هذه العملية (4) شكَّلت المسيرات التى تُقاد عَنْ بُعد عنصرا تكتيكيا رئيسيا للهجوم الأوسع، وبحسب التحليل الذى أجرته شركة “درون سيك” الخاصة للاستخبارات فإن حماس استخدمت بذكاء نوعين رئيسيين مـن المسيرات، الأولى تجارية حُمِّلت بالمتفجرات، والثانية مسيرات انتحارية ذات أجنحة ثابتة تُلقي بنفسها على أبراج الحراسة والأبراج الأمنية والمراكز الحدودية، وأبراج الاتصالات وكاميرات المراقبة الإسرائيلية بدقة، بل إن بعض اللقطات تُظهر مسيرات فلسطينية تقوم بإسقاط دبابة إسرائيلية مـن طراز “ميركافا-4”.
كان هذا نجاحا باهرا فى ضوء تطوير حماس لأدواتها فى نطاق المسيرات، ومع انتشار المسيرات الأكثر تطورا والأرخص ثمنا فى المنطقة، مـن المتوقع ان تصبح حماس وغيرها مـن فصائل المقاومة أكثر مهارة فى حرب المسيرات. ويأتي هذا فى ضوء مهم، فقد كشفت وزارة الدفـاع الإيرانية مؤخرا (5) عَنْ مسيرة سُميت “مهاجر 10″، قادرة على البقاء فى الجو يـوم كامل بسرعة 210 كيلومتر فى الساعة، ما يمكنها مـن الوصول الي دَوْلَةٌ الاحتلال الإسرائيلي، وأضافت الوزارة ان المسيرة يمكن ان تحمل معدات مراقبة إلكترونية وكاميرا.
حرب المسيرات عموما تضع إسرائيل فى خطر أساسي، حيـث يمكن للمسيرات الانطلاق فى موجة أولى تستهدف إرباك النظام الدفاعي الإسرائيلي، ثم تُطلق الصواريخ باتجاه إسرائيل الي جانب العمليات على الأرض، فى عملية ثلاثية مركبة يُعتقد أنها ستنجح فى اختراق دفاعات إسرائيل بشكل لم يحصل جاء الى.
حرب الجبهات المتعددة
فى السياق ذاته، فإن أصواتا عدة دَاخِلٌ الجيش الإسرائيلي تتبنى مخاوف مرتفعة بشأن احتمالات التصعيد الأفقي، اى فتح جبهات متعددة فى الوقت نفسه مع دَوْلَةٌ الاحتلال الإسرائيلي، وما يبدأ فى غزة فلا بد أنه فى إحدى المراحل سيفعّل اشتباكات فى الضفة الغربية وجنوب لبنان ومرتفعات الجولان، الامر الذى يمثل خطورة حقيقية مـن وجهة نظر الاحتلال.
فى الواقع كان هذا النقاش دائرا لأكثر مـن عـقد مـن الزمان دَاخِلٌ أروقة وزارة الدفـاع الإسرائيلية، وخاصة بعد ان أطلق يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لشعبة الأبحاث فى الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية اسم “حلقة النار” (6) على إستراتيجية عسكرية جديدة يمكن ان يستخدمها خصوم إسرائيل. وحلقة النار هى إستراتيجية مفترضة تتضمن بناء حلقة مـن النار (الصواريخ والمسيرات) حول دَوْلَةٌ الاحتلال الإسرائيلي مـن جميع الجهات، وإعداد هجمات منسقة تهدف الي إرباك الاحتلال بشكل متزامن.
ووفقا للصحفي عاموس هاريل مـن صحيفة هآرتس فى حوار (7) مع جين-لوب سمعان، وهو زميل أبحاث أول فى معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنيه، فإن الجيش الإسرائيلي ربما يَتَهَيَّأُ بالفعل لـ”حملة على ثلاث جبهات”، ستكون القوات الإسرائيلية فى موقف هجومي فى اثنتين منها، وهما غزة ولبنان، بينما فى سوريا ستكون فى موقف دفاعي، مع الانتباه على لبنان بوصفها مركزَ ثقلٍ أساسيا، نظرا لحجم مخزون حزب الله مـن الصواريخ الذى يقدر بنحو 130 ألف صاروخ.
تغيير العقيدة الدفاعية
لسنوات طويلة، كانـت القبة الحديدية هى جوهرة التاج بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وتستخدمها إسرائيل للترويج الي أنها قوة لا تُقهر، ورغم ان هذا الكلام غير مؤكد كَمَا أوضحنا فى اخبار سابقة، فإن القبة الحديدية بالأصل نظام دفاعي، لا يمكن لها ان تفوز بالحروب، بينما لم تحقق العمليات الهجومية السابقة على غزة أهدافها كاملة، الامر الذى أدى الي تقويض مصداقية إسرائيل فى مجال الردع.
وبناء على ما سبق فإن فريقا مـن المخططين دَاخِلٌ جيش الاحتلال الإسرائيلي يقترح منذ عَامٌ 2020 ان تتبنى إسرائيل عقيدة دفاعية جديدة للتماشي مع هذه التهديدات المتلاحقة السالف ذكرها، بتحويل طبيعة الحرب التى يقودها الجيش الي عمليات هجومية سريعة تعتمد على استخدام وحدات أصغر مـن الجنود مدعومة بقوة نيران هائلة تستهدف قوة تدميرية أكبر مـن المعتاد وبدقة أعلى، سُميت هذه الآلية “النصر الحاسم”.
تهدف العقيدة المقترحة الي التصعيد فى وقت مبكر جدا وبسرعة، وتعتمد على المناورة وأسلحة المواجهة (وهي صواريخ أو قنابل يمكن إطلاقها مـن مسافة كافية للسماح للأفراد المهاجمين بالتهرب مـن تأثير السلاح أو النيران الدفاعية مـن المنطقة المستهدفة) والعمليات المشتركة، والتركيز بشكل كثير على التكنولوجيا الجديدة وصولا الي الحرب السيبرانية، فى مواجهه مع عدو متطور عسكريا، فى سيناريو متعدد الجبهات.
هذه الاستجابة لا تقول إلا شيئا واحدا فقط، وهو إن إسرائيل باتت تعرف أنها امام مقاومة غير جامدة، بل هى مرنة تطور نفسها بشكل متسارع يوما بعد يـوم، وتتكيف مع المتغيرات فى المنطقة، بل إنها تفاجئ الجيش الإسرائيلي فى كل مرة بتفوق مدهش فى التخطيط والتنفيذ، وما حصل فى “طوفان الأقصى” لم يكن إلا واحده مـن هذه المفاجآت التى كانـت كالعادة أكثر تطورا مـن سابقاتها.
_______________________________________
مصادر
- 1- ‘Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy (اعتمد الكاتب على هذه الدراسة بشكل رئيسي )
- 2- Gaza’s enhanced rocket technology challenges Israel’s defences
- 3- How Hamas flooded Israel, killed hundreds and took another 100 hostage: A revolution in drone warfare dating back to Ukraine
- 4- How Hamas likely used rudimentary drones to ‘blind and deafen’ Israel’s border and pave the way for its onslaught
- 5- Iran unveils armed drone resembling America’s MQ-9 Reaper and says it could potentially reach Israel
- 6- Iran’s ‘Ring of Fire’: A Growing Threat to Israel
- 7- Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy
- 8- TURN ON THE LIGHT, EXTINGUISH THE FIRE: ISRAEL’S NEW WAY OF WAR