الهند وفلسطين.. رحلة تخلِّي دلهي عَنْ المقاومة الي دعـم إسرائيل سام نيوز اخبار
على ضفاف نهر “بارْوَتِي” المتاخم لجبال الهيمالايا بأقصى شمال الهند، تقع قرية “كَسُل” الصغيرة والنائية، التى تعج بالعديد مـن الحانات والفنادق الرخيصة ومقاهي الإنترنت والمطاعم الأجنبية، بالإضافة الي التداول الواسع لـ”تشَرَس”، واحد مـن أجود أنواع الحشيش الهندي. تقدِّم “كَسُل” للكثير مـن السائحين وعشاق تسلق الجبال أو الطبيعة الهندية مزيجا مـن الاسترخاء والتأمُّل واستنشاق الهواء النقي، الممزوج أحيانا ببعض الحشيش، ويلحظ زوَّارها باستمرار توافر معظم اللافتات باللغتين الهندية والعِبرية، إذ تعجُّ المدينة بنسبة كبيرة مـن الزوَّار الإسرائيليين نتيجه قدوم العديد مـن الشباب المُنتهي لتوِّه مـن الخدمة العسكرية الإجبارية فى إسرائيل، وهي ظاهرة حاضرة أيضا فى ولاية “غُوا” الساحلية غربي الهند، إذ يسافر هؤلاء اليها فى الشتاء بعيدا عَنْ ثلوج الهيمالايا.
يتوافد شباب إسرائيليون على الهند سنويا تحت رعاية منظمات حكومية وغير حكومية فى إسرائيل (1)، لمعالجة آثار الضغط النفسي الواقع عليهم فى صفـوف الجيش، فتتحوَّل حياتهم الي النقيض تماما: حفلات مستمرة، وتعاطٍ للمخدرات، وتعامل مفتوح مع البغاء، وهي تصرُّفات جلبت استهجانا محليا شمل الكنيسة الكاثوليكية فى “غوا”، التى نشرت كُتيِّبا تحذر فيه مـن تجاهلهم لعادات السكان المحليين، و”لا إنسانيتهم” بسـبب ما خاضوه اثناء خدمتهم بالجيش (2).
“كُل ما عليك هو اتباع اللافتات العبرية لتصل فى النهايه الي غليون مملوء بالحشيش”، هذا ما قاله مالك أحد الشواطئ فى “غُوا”، التى تشهد حضورا قويا لرجال الأعمال الإسرائيليين، وشراءهم مساحات واسعة مـن الأراضي دفعت نائبا برلمانيا للتحذير مـن “احتلال الإسرائيليين فى غوا”، وانخراطهم فى تجارة المخدرات بالمدينة، وتوفير الغطاء لتجارتهم عبر أملاكهم هناك (3). مـن المجنَّدين والمستشارين الزراعيين، وحتى رجال الأنتقالات الضبابية وتجارة المخدرات، بات التوافد الإسرائيلي ملحوظا رغم بساطته فى دَوْلَةٌ كبيرة مثل الهند؛ ليعكس الشوط الكبير الذى قطعته إسرائيل نحو فتح باب العلاقات الطبيعية مع دلهي، التى لم تُطبِّع علاقاتها مع إسرائيل بالكامل إلا عَامٌ 1992، بعد عقود مـن العداء شبه التام.
“الهامة الدبلوماسية الأكثر انعزالا فى العالم”، هكذا عُرِفَت قبل خمسين عاما قنصلية إسرائيل فى مومباي بموظفيها الأربعة، اثناء كان محظورا على تل أبيب تدشين سفارة فى العاصمة دلهي، واقتصرت العلاقات -مـن جهة إسرائيل فقط- على المستوى القُنصلي، بينما امتنعت الهند عَنْ إيفاد اى دبلوماسي الي إسرائيل (4). حرصت تل أبيب على علاقاتها مع الهند آنذاك رغم جفاء القيادة السِّيَاسِيَّةُ الهندية، بل ودأب أولئك الموظفون الأربعة على نشر مجـلة خاصة بالقنصلية كل شهرين، والرد على استفسارات بعض الهنود ارتكزت بالأساس على تجربة إسرائيل الرائدة فى الزراعة.
انفتح باب العلاقات الكاملة قبل 30 عاما، بيد أنه اثناء مواربا مـن جهة الهند حتـى وقت قريب، إذ انصبَّ الاهتمام الهندي على الاستفادة مـن شركات التنمية الزراعية الإسرائيلية، والتعاون فى المجالات العسكرية المتميزة لدى الإسرائيليين. عدا ذلك بقي حماس الهند محدودا حيال التطبيع الشامل، فقد امتنعت شركات الطيران الهندية عَنْ الرحلات المباشرة الي تل أبيب حتـى عَامٌ 2017، تاركة الطيران الإسرائيلي “إل عال” يُقدِّم تلك الخدمة منفردا لعدد محدود مـن السائحين الهنود لا يتجاوز 50 ألفا سنويا، وهي أعداد لا يزال يسعي بعضها ان يتفادى الختم الإسرائيلي على صفحات جواز سفره والحصول عليه فى ورقة منفصلة؛ خوفا مـن رفض دخوله بينما بعد الي بعض دول الخليج أو إيران ذوي العلاقات المتشعبة بالهند (5) (6).
مثلها مثل سائحيها، حاولت الهند باستمرار قصر علاقاتها مع إسرائيل على ما يهمُّها مـن مجالات، مع تفادي “أختتم” العلاقات العلنية وحفاوة الزيارات الرسمية الي تل أبيب التى لم يقُم بها رئيس وزراء هندي أبدا حتـى عَامٌ 2017. بيد ان الباب الموارِب أخذ ينفتح أكثر مع وصول رئيس الوزراء الحالي “نارندرا مودي” الي السلطة عَامٌ 2014، وسياساته الناقمة على كل ما رسَّخه حزب الكونغرس مـن ثوابت، فلم ينتظر الرجل طويلا حتـى يكون أول رئيس وزراء تطأ قدماه دَوْلَةٌ الاحتلال الإسرائيلي، حيـث قام بزيارة رسمية الي تل أبيب عَامٌ 2017 بادله إيَّاها رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” فى العام القادم. فى المقابل، على مدار فترته الأولى فى الحكومة، اثناء إرث نهرو يُلقي بظلاله، وظلت التزامات القضية الفلسطينية ذات التَّارِيخُ الطويل تفرض على الهند بعض الالتزامات رغم كونها بلدا غير عربي أو مُسلم، وهو ما يأخذنا الي أسباب تبلور ذلك الالتزام فى المقام الاول، وإلى صفحات مجهولة ومُهمِّة فى آنٍ واحد مـن علاقات الهند والقوى السِّيَاسِيَّةُ فيها بالعالم العربي.
الباب الموصد بوجه إسرائيل: إرث نهرو وحركة الخلافة
“تُعارض باكستان باستمرار مشاركتنا فى الفعاليات الإسلامية، وهو أمر طبيعي لأن تأسيسها بوصفها دَوْلَةٌ يقوم على نظرية الفصام بين شعب هندوسي (فى الهند) وشعب مسلم (فى باكستان)؛ نظرية لم ولن تقبلها الهند”.
(كورْبَتْشان سينغ، سفير الهند السابق بالمغرب)
فى مارس/آذار 1966، حطَّت طائرة الرئيس الإسرائيلي “زلمان شَزار” فى العاصمة الهندية دلهي لسويعات، قبل ان تنقله الي مدينة كالوكتَّا شرقي الهند حيـث أمضى ليلته على ان يصل صباحا الي وجهته الرسمية: العاصمة النيبالية “كاتماندو”. لم يكن ثمة مسؤول هندي واحد لاستقبال الضيف الثقيل الذى حلَّ ضيفا على الهند رغما عنه فى رحلته الطويلة، على عكس العادة الدبلوماسية فى مواقف مثل هذه؛ ما منح المعارضة فرصة مناسِبة لمهاجمة رئيسة الوزراء آنذاك “إنديرا غاندي” بعد شهرين فحسب مـن توليها المنصب بسـبب ما أبدته حكومتها مـن “سوء الضيافة” (7).
على خُطى والدها “جواهرلال نهرو”، الذى جمعته علاقة وطيدة مع الرئيس المصرى جمال عبد الناصر والتزم “سياسة عروبية” تجاه القضية الفلسطينية، التزمت إنديرا بخط السياسة الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، بل وازدادت تعنُّتا فى مقاطعة الإسرائيليين؛ رغبة منها فى توطيد صفـوف جناحها بالحزب الحاكم (الكونغرس) المتحالف مع الأحزاب اليسارية التى ترفض التطبيع هى الاخرى، وإيمانا بتبعية المشروع الصهيوني للغرب، علاوة على اهتمامها بتعزيز شعبيتها فى أوساط المسلمين بما يمثلونه مـن خُمس السكان فى الهند، وكسب ورقة تعاطفهم مع الفلسطينيين فى الانتخابات.
لم تكن سياسة الكونغرس تجاه إسرائيل مجرد حسبة انتخابية فى واقع الامر، بل تجلٍّ لإرث طويل مـن الاهتمام بالعالم الإسلامي نظرا لتعداد الهند المُسلِم الكبير. فقد كان حراك الكونغرس بقيادة المهاتما غاندي امام البريطانيين كتفا بكتف مع حركة دعـم الخلافة العثمانية التى نشأت فى صفـوف مسلمي الهند فى بداية القرن العشرين وأنتجت قيادات مُسلمة عديدة، منها مَن بقي فى الهند ومنها مَن ســاهم فى تأسيس دَوْلَةٌ باكستان عَامٌ 1947. ثم حازت الهند استقلالها إبَّان انقسام القارة الي دولتَيْ الهند وباكستان، واستندت جزئيا الي رفض الخطاب الباكستاني القائل بـ”هندوسية” الهند، وعدم الرضوخ لمحاولتها عزل الهند عَنْ محيطها الإسلامي فى الشرق (إندونيسيا وماليزيا) والغرب (إيران والخليج)، بل وضرورة بلورة علاقات وطيدة مع ذلك المحيط عموما، ومع العرب وقضاياهم خصوصا، بوصفها تمثيلا طبيعيا للدور التاريخي لمسلمي الهند.
جَرَت الرياح بما تشتهي السفن فى دلهي، إذ شكَّلت حرب الأيام الستة عَامٌ 1967 سببا إضافيا لتمسُّك إنديرا بمقاطعة إسرائيل بوجه معارضيها نظرا لمخالفة تل أبيب قرارات الأمم المتحدة باحتلال أراضٍ عربية جديدة. وبالمثل سرت الرياح دَاخِلٌ الهند اثناء هزم الجيش الهندي نَظِيرِه الباكستاني فى معركة تحرير بنغلاديش عَامٌ 1971، فاكتسح جناح إنديرا الانتخابات البرلمانية فى العام نفسه، مؤكِّدا سيطرة واستمرار إرث نهرو فى حزب الكونغرس. بيد ان الحماس الهندي للقضية الفلسطينية كان قد بدأ بالفتور على خلفية أحداث عدة، بدأها فى الواقع الجانب العربي عَامٌ 1969.
فى سبتمبر/أيلول عَامٌ 1969، تلقَّى “جوربَتْشان سينغ”، سفير الهند بالمغرب، دعوة رسمية لحضور بلاده المؤتمر الإسلامي فى العاصمة المغربية الرباط، على خلفية قيام يهودي متطرف مـن أستراليا بإشعال حريق فى المسجد الأقصى، وهو مؤتمر تمخضت عنه منظمة المؤتمر الإسلامي. جلس سينغ رئيسا للوفد الهندي اثناء الجلسة الافتتاحية حتـى جاء فى اليـوم القادم وفد رَسْمِيٌّ مـن دلهي بقيادة “فخر الدين احمد”، وزير مُسلم مـن حكومة إنديرا، لكن أحد المُوفَدين مـن جانب ملك المغرب حمل أخبارا سيئة للوفد الواصل لتوِّه؛ لقد تراجع المؤتمر عَنْ دعوة الهند.
أتت المُعارضة كَمَا هو متوقع مـن باكستان، وقيل إن ضغوط عَدَّدَ مـن المؤسسات الباكستانية على رئيسها “يحيى خان” غيَّرت موقفه بعد ان وافق فى البداية على حضور الهند، وسيقت الحُجج رسميا للوفد الهندي بالإشارة الي أحداث توتر طائفي جرت فى إحدى الولايات الهندية أدت الي مقتل عَدَّدَ مـن المسلمين بوصفها عائقا يحول دون استكمال الهند حضور المؤتمر. ومن ثمَّ طُلب مـن فخر الدين إما التنازل عَنْ الحضور وإما تغيير صفة الهند مـن عضو كامل الي عضو مراقب، الامر الذى رفضه الوزير الهندي.
حظي الموقف الباكستاني بدعم الأردن وتركيا وإيران (بينما الاخيره تحت حُكم الشاه آنذاك)، وقيل إن اثنين منهم هددا بالانسحاب مع باكستان إذا حضرت الهند، ما دفع المغرب ببساطة لتفادي إعلام الهند بجدول أعمال المؤتمر لإجبارها فعليا على عدم الحضور والخروج مـن المأزق وإنجاح المؤتمر. عُقدت الجلسة الختامية عصر يـوم 25 سبتمبر/أيلول، وحين علم الوفد الهندي وأرسل خطابا الي رئاسة المؤتمر يستفسر عَنْ عدم دعوته، لم يتلقَّ ردا؛ فخرج البيان الختامي مشيرا الي حضور ممثلين عَنْ “المسلمين بالهند” فحسب، دون ذكر حضور وفد ممثل للدولة الهندية فى بداية المؤتمر (8).
أبلغت الهند الدول المشاركة فى المؤتمر احتجاجها الرسمى على ما جرى مـن خرق واضح للأعراف الدبلوماسية، وقد سارع بعضها بإرسال الوفود الي دلهي لتفسير موقفه ودعمه الأصلي للمشاركة الهندية، وعلى رأسها مصر. بيد ان التخبُّط العربي حيال الهند وباكستان ما انفك يكشف عَنْ نفسه فى مواقف عديدة، لا سيَّما الحروب المتكررة بين البلدين فى كشمير، التى انحاز فيها البعض لباكستان، مثل الخليج، بينما حاول آخرون التزام الحياد، مثل مصر.
استمر الالتزام الهندي بالقضية الفلسطينية طوال وجود إنديرا فى السلطة، إذ مُنحَت منظمة التحريرالفلسطينية مقرا رسميا فى دلهي عَامٌ 1974، فى الوقت الذى ظلت فيه إسرائيل على قنصليتها المتواضعة خارج العاصمة، بل وتعرضت لتضييقات إضافية مثل رفض منح اى تأشيرات هندية لمواطنين إسرائيليين، وكان بعضها يُمنح عَنْ طريق السفارة البريطانية فى تل أبيب، التى أدارت عبرها الهند تلك الملفات الأساسية فى علاقاتها مع إسرائيل. لكن تلك الْأَوْضَاعُ لم تستمر طويلا، مثلها مثل أوضاع كثيرة انقلبت رأسا على بعد فى الشرق الأوسط اثناء السبعينيات (9).
الباب الموارب: الثمانينيات وما بعد حرب كارغيل
“هل يُعقَل ان نكون أكثر عروبة مـن مصر نفسها؟”.
(تشيدَمْبَرَم سوبْرَمَنْيام، وزير مالية ودفاع هندي لاحق)
لو كان لإسرائيل ان تحتفل بعام آخر غير عَامٌ 1948، لربما فكرت ان تحتفل بعام 1977، إذ فتح لها ذلك العام أبوابا عدة وليس بابا واحدا فقط. أولها وأثمنها الباب المصرى، الذى انفتح على مصراعيه بزيارة الرئيس أنور السادات للكنيست الإسرائيلي، وما تبعه مـن طي صفحة الحروب مع مصر، وثانيها حدوث انفراجة لأول مرة فى التواصل المباشر مع الهند، بعد خروج إنديرا مـن السلطة جراء سقوط شعبيتها فى انتخابات 1977 على خلفية سلطويتها المتزايدة وإعلانها حالة الطوارئ.
لم تفكّر حكومة “جَانَتا” الجديدة طويلا، لا سيَّما مع وجود عناصر قومية هندوسية فى صفوفها ترى وجاهة الاصطفاف مع إسرائيل فى مواجهه باكستان، ومن ثم تقرر إستقبال وزير الدفـاع الإسرائيلي “موشيه دَيان” سِرًّا فى دلهي لبحث سُبُل الاستفادة مـن خبرات إسرائيل العسكرية. ورغم سقوط حكومة “جَانَتا” فى غضون عامين، وعودة إنديرا للسلطة، فإن سياساتها الخارجية باتت أضعف آنذاك مع بدء تراجع حليفها السوفيتي واختفاء النظام الناصري مـن الساحة. لقد كانـت مسألة وقت لا أكثر قبل ان يصبح الباب الموصد مواربا، وهو ما حدث بالفعل بعد اغتيال إنديرا غاندي عَامٌ 1984 على يد متطرفين سيخيين (10).
عَامٌٌ واحد فقط مرَّ على اغتيالها قبل ان يقرر “راجيڤ غاندي”، ابنها وخلفها فى السلطة، التقاء نَظِيرِه الإسرائيلي لأول مرة على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة. أدركت المؤسسات الحاكمة فى الهند اثناء اعوام راجيف الصعبة فى الثمانينيات الحاجة الي تغييرات جذرية لمواكبة ما يجري مـن حولها، بدءا مـن تدهور الاتحاد السوفيتي عالمـيا، وانتقال الثقل الاقتصادي فى المنطقة العربية الي الخليج بعلاقاته الكبيرة مع باكستان، والحاجة الي فتح السوق الهندي ومن ثم التقارب مع الولايات المتحدة، لا سيَّما مع بدء صعود الاقتصاد الصيني (11).
كان ملف التطوير العسكري على رأس الأجندة الهندية، فقد ظلت الصناعات العسكرية الأميركية بعيدة عَنْ السوق الهندي، بينما أدى تراجع روسيا عالمـيا مع الحاجة الي صيانة وتطوير الترسانة السوفيتية لدى الجيش الهندي الي الرغبة فى بلورة علاقة جديدة مع طرف يمكنه سد تلك الثغرة، وهو واحد مـن الدوافع الرئيسية لقرار تدشين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل تحت رئاسة وزراء “نَرَسيمْها راو” عَامٌ 1992.
أدت عوامل إضافية فى نهاية التسعينيات الي تعميق الشراكة العسكرية مع إسرائيل؛ أولها الحظر الذى فرضته الولايات المتحدة مؤقتا على التعاون العسكري مع الهند بسـبب تجاربها النووية العسكرية، التى خرقت اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي. وثانيها وصول حزب بهارتيا جَانَتا القومي الهندوسي للسلطة لأول مرة، وابتعاده أكثر عَنْ الناخبين المسلمين وأحزاب اليسار. وثالثا وقوع حرب جديدة مع باكستان عَامٌ 1999 -حرب كارغيل- تكشَّفت فيها مكامن خلل عسكرية واستخباراتية فى تعامل القوات الهندية مع نظيرتها الباكستانية التى تمتَّعت بالدعم الأميركي وبانحياز الصين نظرا للتنافس التاريخي بين الصين والهند (12).
فى تلك الفتره لم تجد دلهي سوى أيادي إسرائيل الممدودة، التى طالما تطلعت نحو علاقة قوية مع الهند بينما يشبه حبا مـن طرف واحد، حتـى قررت الهند أخيرا الاستجابة جزئيا للتودد الإسرائيلي بغية الحصول على مزايا الترسانة الإسرائيلية، التى سرعان ما باتت دلهي أكبر مستهلك لها فى العالم، علاوة على الوصول بصورة غير مباشرة لأحدث تقنيات الغرب العسكرية مـن بوابة تل أبيب.
استمر نهج الباب الموارِب، المنصب على الاستفادة العسكرية والتقنية، اثناء عاد حزب الكونغرس للسلطة وظل فيها حتـى عَامٌ 2014، فى تجلٍّ واضح لاستحالة العودة لسياسات نهرو “العروبية”، لا سيَّما ان أصحاب تلك السياسات مـن العرب أنفسهم تخلوا عنها مـن اجل سياسات أكثر واقعية، ولذا لم يكن منطقيا ان تحمل دلهي لواء معركة على بُعد آلاف الكيلومترات مع دَوْلَةٌ تمنحها الان مزايا هى فى الامسّ الحاجة اليها لمواجهة عدوِّها المباشر.
عصر مودي: الباب ينفتح على مصراعيه
“يبدو هنالك تضليل لشعبنا بخصوص فلسطين نتيجه دعايات المسلمين. فلسطين بأكملها وطن للشعب اليهودي، وذلك قبل ألفَيْ عَامٌ على الأقل مـن ميلاد رسول المسلمين”.
(ﭬينايَك دامودَر ساوَرْكَر، أحد أعلام القومية الهندوسية)
فى عَامٌ 2008، قام حاكم ولاية كوجرات آنذاك نارندرا مودي بتخصيص جزء مـن ميزانية الولاية لإطلاق موقع إلكتروني باسم المفكر الهندوسي “ﭬينايَك دامودَر ساوَركَر”، مُدافِعا عنه امام “الدعاية الخبيثة التى نالت منه وأدت لسوء الفهم حياله لعقود طويلة” حسب زعمه. كان ساوَركَر جزءا مـن مدرسة القومية الهندوسية التى صارعت إرث المهاتما غاندي، ورأت فى الهند وطنا هندوسيا يستند الي الارتباط الوثيق بين أرض الهند المقدسة والعقيدة الهندوسية، ومن ثم اعتُبر اى عنصر ديني آخر لا يقدِّس أرضها دخيلا عليها (13).
طوال مدة رئاسته لولاية كوجرات، كان مودي محركا رئيسيا فى حملة الحركة القومية الهندوسية مـن اجل مراجعة السرديات الرسمية لتاريخ الهند، وإعادة الاعتبار لأعلام الهندوس القوميين والمحافظين، علاوة على تنفيذ تصوراته عَنْ السياسة الخارجية مـن موقعه فى السياسة المحليه، وبالتحديد بينما يتعلق بإسرائيل والتقارب معها، فى اتساق مع موقف القومية الهندوسية التاريخي بتأييد قيام دَوْلَةٌ يهودية فى فلسطين بوصفها أرضا مقدسة لليهود وطأها المسلمون متأخرا، تماما كَمَا حدث مع أرض الهند “الهندوسية”، حسب مزاعمهم.
اثناء حكمه للولاية بين عامي 2001-2014، دأب مودي على تعزيز علاقاته مع إسرائيل، فأرسلت كوجرات العشرات مـن رجال الأعمال والمزارعين الي هناك للحصول على أحدث تقنيات الزراعة الإسرائيلية، كَمَا استقبلت الولاية استثمارات إسرائيلية عديدة. ولم تكن مفاجئة إذن الحفاوة الإسرائيلية التى قوبل بها مودي بعد انتصاره عَامٌ 2014 فى الانتخابات البرلمانية وتوليه رئاسة الوزراء، وكذلك الحماس تجاه وزيرة خارجيته “سوشما سواراج”، رئيسة المجموعة البرلمانية للصداقة الهندية-الإسرائيلية سابقا، فتوالَت شواهد عدة على انفتاح غير مسبوق تجاه تل أبيب، بدأ بلقاء مودي ونتنياهو على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم ما أُشيع عَنْ تردد كثيرين فى الخارجية الهندية تجاه اللقـاء (14) (15).
فى أواخر عَامٌ 2014 قام وزير الداخلية “راجنات سينغ” بزيارة إسرائيل والعودة لبلاده، فى سابقة مـن نوعها تعاكس العُرف الدبلوماسي الهندي بعدم زيارة إسرائيل دون المرور بالسلطة الفلسطينية فى رام الله (16). تلا ذلك فى أكتوبر/تشرين الاول 2015 زيارة رئيس الجمهورية الهندية ذي المنصب الشرفي “بْرَناب موخِرْجي”، فأصبح أول رئيس هندي يزور إسرائيل، لكن مع مروره على رام الله هذه المرة (17).
بيد ان تلك التحوُّلات لم تجلِب انفتاحا كاملا فى حينه، إذ سادت الحسابات الواقعية فى الفتره الأولى لحُكم مودي، وعلى رأسها العلاقة الإستراتيجية الوطيدة بين الهند وإيران، إذ تجمع البلدين مصلحة مشتركة باحتواء باكستان، علاوة على اهتمام الهند بعلاقاتها مع بنغلاديش وماليزيا وإندونيسيا والخليج، ومن ثمَّ لم يكن منطقيا التضحية بكُل ذلك وفتح باب التطبيع على مصراعيه فى يـوم وليلة بما ينافي مصالح الهند، لا سيَّما مع اهتمام دلهي بالحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن، الامر الذى سيحتاج الي عَدَّدَ كثير مـن الدول المؤيدة (18).
رغم حماستها مـن اجل تعميق العلاقات الرسمية مع إسرائيل إذن، والاستفادة منها عسكريا وتكنولوجيا، أبدت حكومة مودي درجة مـن الالتزام ببعض المواقف “العربية” التقليدية، منها الاستمرار فى الإشارة الي محمود عباس بوصفه رئيس فلسطين لا السلطة الفلسطينية فحسب كيفما تفعل دول أخرى، وزيارة وزيرة الخارجية الهندية لضريح ياسر عرفات اثناء زيارتها الي فلسطين، وتصويت الهند لصالح رفـع العلم الفلسطيني فى الأمم المتحدة (19). فى الوقت نفسه، أخذت الهند خطوات بطيئة مـن اجل تعزيز التعاون الثقافي والاقتصادي مع دَوْلَةٌ الاحتلال، أبرزها رحلات الطيران المُباشرة على طيران الهند التى بدأت مـن مايو/أيار 2017 طبقا لاتفاق وقَّعه الطرفان دشَّن ثلاث رحلات أسبوعية مـن الهند الي إسرائيل (20).
فى اثناء الفتره الثانية لمودي فى السلطة (2019-2024)، ازدادت وتيرة التطبيع مع إسرائيل، وعزَّز ذلك الاتجاه التقارب الوثيق بين دلهي وواشنطن على خلفية تنامي قوة الصين، ولذا باتت الهند تنظر الي إسرائيل أكثر على أنها جزء مـن تحالفها مع الولايات المتحدة أكثر مـن كونها مسألة مرتبطة بعلاقاتها مع الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. يُضاف الي ذلك تراجع مخاوف الهند مـن ردود الفعل الخليجية والإيرانية، أولا لأن بعض دول الخليج بدأت تسلك مسار التطبيع، وثانيا لأن العلاقات الهندية-الإيرانية باتت أقل محورية فى نظر الهند رغم أهميتها، إذ إن أزمتها الاقتصاديه وأزمة الشرعية التى يعاني منها نظامها يجعلان منها أقرب الي الصين، كَمَا ان سقوط الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن الذى أذكى العداء بين العاصمتيْن دفع دلهي لترجيح كفة الاخيره بطبيعة الحال، ومن ثمَّ تضاءل وزن إيران فى الحسابات الهندية وإن لم يتلاشى بالكُليَّة (21).
فى اثناء اعوام مودي الأولى فى السلطة، بات الساسة الهنود أقدر على مبادلة الإسرائيليين بعض الود الذى بادلوهم إياه فى الماضي، بيد أنهم، مثل غالبية المسافرين على رحلات طيران الهند، حرصوا ألا تنطبع على وجناتهم قُبُلات إسرائيل. بعد بدء عامه العاشر فى السلطة، والتحوُّلات الكثيرة فى العلاقات الإقليمية المحيطة بالهند، يبدو ان دلهي قد رفعت الستار أخيرا عَنْ الوُد المكتوم مع تل أبيب، بل وباتت انحيازاتها لها مُفاجِئة للأميركيين أنفسهم، إذ أبدى أحد المُحلِّلين بمجلس العلاقات الخارجية الأميركية دهشته مـن تغريدة مودي الاخيره حول عملية “طوفان الأقصى” التى جاء فيها: “إنني مصدوم مـن اخبار الهجمات الإرهابية فى إسرائيل. نحن متضامنون مع إسرائيل فى هذه الساعة الصعبة” (22).
فى اثناء بيانات روسية وصينية وبرازيلية تحدَّثت بشكل أكثر توازُنا عَنْ ضرورة حل القضية الفلسطينية والالتزام بحل الدولتيْن، بل وتجنَّب بعضها إدانة حماس فى إشارة ضمنية الي ان جذور الأزمة تعود الي التطرُّف الإسرائيلي، يظهر الموقف الهندي المُطابِق تقريبا للموقف الأميركي بوصفه تجليا لما أحدثته الحكومة القومية الهندوسية وعلى رأسها مودي مـن تغيُّرات فى ثوابت السياسة الخارجية الهندية، وتجليا أيضا لتراجع النظام الإقليمي العربي نفسه وخروجه مـن قلب إستراتيجية الهند تجاه المنطقة والعالم.