الاخبار العربية والعالمية

تاريخ “النيران الصديقة” فى إسرائيل.. لماذا يقتل جيش الاحتلال أبناءه؟ سام نيوز اخبار

“هذه ليست مأساة فحسب، بل وصمة عار”.

رون بن يشاي، فى مقالته بصحيفة “يديعوت أحرونوت“، تعليقا على قتل الجيش الإسرائيلي ثلاثة أسرى صهاينة فى حي الشجاعية.

“لقد خرج جنود الاحتلال فى منطقه مكشوفة ومُراقبة مـن المبنى الذى كمنت فيه عناصر الجيش.. سار المخطوفون يحمل أحدهم راية بيضاء وهم عراة مـن قمصانهم، لاستبعاد إمكانية الاعتقاد بأنهم عناصر تحاول تنفيذ هجـوم “رأس الحربة” انتحاري.. وحتى لو شكَّ عناصر الجيش فى وجود كمين مُدبَّر مـن عناصر حماس، كان بإمكانهم تنفيذ إجراء اعتقال معتاد أو حتـى الاعلان أعيرة تحذيرية فى الهواء”، هكذا تحدَّث الكاتب الإسرائيلي “رون بن يشاي” فى مقاله بصحيفة “يديعوت أحرونوت”، واصفا حادثة قتل جيش الاحتلال لثلاثة مـن أبنائه الأسرى، بعد ان حاولوا إعلان الاستسلام، حيـث فتح الجنود النار بكثافة على الأسرى الثلاثة، فقتلوا اثنين وفرَّ ثالثهم (1).

لم تنتهِ القصة هنا، إذ إن قائد الكتيبة التى اطلقت النار ظن أنه فى اشتباك مع حماس، وطارد الأسير الثالث الذى اختبأ فى أحد المباني، وحين جاء الي المبنى وسمع شخصا يصرخ “أنقذوني” بالعبرية، دعاه الي الخروج، ثم أرداه قتيلا. سرعان ما أشعلت القصة وسائل الإعلام فى إسرائيل وامتلأت شوارعها بالمتظاهرين. غير ان ما حدث لم يكن شيئا جديدا على جيش الاحتلال، ليس فقط لانه قتل أكثر مـن 60 مـن أسراه فى قصفه الوحشي على قطاع غزة، بل لأن قصة احتلال فلسطين وقيام الدولة الصهيونية مرتبطة ارتباطا وثيقا بتاريخ طويل مـن “النيران الصديقة” التى حصدت أرواح آلاف اليهود لأسباب متعددة. إن الوكالة اليهودية، التى كانـت تدين لها بالولاء عصابات الصهاينة قبل عَامٌ 1948 حتـى أنجبت جيش الاحتلال الإسرائيلي، صرَّحت بعد انتهاء الحرب العالميه الثانية بأن عدو الصهيونية الاول هم “اليهود غير الصهاينة ثم الدول الديمقراطية ثم العرب” (2)، وهو ما يجعلنا نتساءل: لماذا يقتل الصهاينة إخوانهم اليهود؟

 

أكبر مـن مجرد بروتوكول

بعد إبرام صفقة تبادل الأسرى المسماة “الجليل” بين حكومة دَوْلَةٌ الاحتلال والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة أمينها العام احمد جبريل عَامٌ 1985، التى تم بموجبها الاعلان سراح ثلاثة جنود إسرائيليين أسرى لدى الجبهة مقابل 1150 أسيرا فلسطينيا، وبعد 5 اشهر مـن أسر حزب الله اللبناني لجنديين إسرائيليين وما تلا ذلك مـن عمليات تبادل للأسرى، صاغت قيادة جيش الاحتلال بروتوكولا يعرقل أسر اى جندي إسرائيلي بأي ثمن (3).

ففي عَامٌ 1986، وضع “يوسي بيليد”، رئيس القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي، بالتعاون مع لجنة تكونت مـن الجنرال المتقاعد “أوري أور”، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق “غابي أشكنازي”، وقائد المنطقة الشمالية فى الجيش “عمرام ليفين”، ومستشار الأمن القومي سابقا الجنرال العقيد “يعقوب أميدرور”، بروتوكولا يسمى “توجيه هانيبال”، تكمن فكرته فى مفهوم “الجندي القتيل افضل مـن الجندي الأسير”. ويُحدد توجيه هانيبال الخطوات التى يجب على الجيش اتخاذها فى حالة اختطاف جندي، بحيث يسمح هذا التوجيه بقتل الجندي قبل ان يصبح أسيرا لدى قوات العدو، وقد استُخدم هذا البروتوكول نحو سبع مرات حسب ما صرح عنه جيش الاحتلال، غير ان ما حدث اثناء عملية “طوفان الأقصى” تجاوز بكثير حدود البروتوكول.

وفق عدة مصادر إسرائيلية، لم تفرق نيران قوات الاحتلال بين المقاومة والمستوطنين الإسرائيليين، وقد نشرت صحيفة “هآرتس” ان عَدَّدَ الناجين مـن أحداث مستوطنة “بئيري” كانوا اثنين فقط، فبعد ساعات مـن تبادل الاعلان النار بين قوات الجيش وعناصر حماس خرج أحد مقاتلي حماس ومعه الأسيرة “ياسمين فورات” وقام بإطلاق سراحها. وقد أخبرت قوات وحدة “اليمام” ان بالمنزل 14 محتجزا آخر، غير ان الجنرال “براك حيرام” أمر الدبابات بإطلاق قذائفها على البيت فاحترق بمَن فيه، ولم ينجُ أحد مـن المحتجزين الذين كان مـن بينهم طفلان (4).

تكرر الامر نفسه فى الأماكن التى اشتبك فيها جيش الاحتلال مع مقاتلي حماس، حيـث قصفت الدبابات والطائرات المنازل والتجمعات، ومنها الحفل الموسيقي الذى أُقيم قرب غزة ليلة 7 أكتوبر/تشرين الاول، ولم يبالِ الجيش بوجود المستوطنين الإسرائيليين بمَن فيهم النساء والأطفال. اما اثناء العملية البرية التى يقوم بها جيش الاحتلال فى غزة، فأُعلِن عَنْ مقتل 20 جنديا إسرائيليا على الأقل منذ بداية العملية بنيران إسرائيلية (5). و20 هو العدد الأدنى لمَن سقط فى حوادث أو وقائع الاعلان نار، ولا يشمل الأسابيع الثلاثة الأولى مـن الحرب التى سبقت العملية البرية، ما يجعل كل عمليات القتل تتجاوز البروتوكول هانيبال، بل إنها ترتبط بمفاهيم ثابتة لدى الضباط والقادة والمسؤولين فى الحكومة تجعل مـن الجندي أو المستوطن أداة لها وظيفة محددة إن انتفت بات التخلص منها بالقتل أو القصف ضرورة لا غنى عنها.

 

يهود يُمكن التخلُّص منهم

فى كتابه “الصهيونية والحضارة الغربية”، يلخص المفكر عبد الوهاب المسيري نظرة الحضارة الغربية الي الجماعات اليهودية بتقسيمها الي فئتين: يهود قابلين للترحيل وهم أكثر اليهود نفعا، ويهود غير قابلين للترحيل ويُستحسن التخلص منهم بوصفهم عناصر غير منتجة. وقد قام المشروع الصهيوني فى أوروبا على ترحيل تلك الفئات اليهودية القابلة للترحيل الي خارج أوروبا لتكون “مادة نافعة” دَاخِلٌ المشروع الاستيطاني الصهيوني، وهذا ما أكده هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، بنفسه اثناء اعلن إن مشروعه يقوم على ترحيل الفائض البشري اليهودي غير النافع مـن أوروبا وتحويلهم الي عنصر نافع فى الدولة الصهيونية التى ستعمل لصالح الغرب (6).

وما إن اطمأنت المنظمة الصهيونية(أ) بتبني الدول الغربية لمشروعها، حتـى بدأت فى تنفيذ خطتها، لكن واجهتها مشكلتان: الأولى ان فلسطين ليست أرضا بلا شعب، كَمَا روجت المنظمة الصهيونية فى أوروبا، بل كانـت مسكونة بشعب له حضارته وثقافته العريقة، والمشكلة الثانية ان اليهود فى بلاد الشتات، خاصة فى بريطانيا والولايات المتحدة والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم يكونوا مقتنعين بالصهيونية ولا بالهجرة الي فلسطين. ولذلك يشرح “توماس سواريز” فى كتابه “دَوْلَةٌ الإرهاب: كيف قامت إسرائيل على العنف” ان المنظمة الصهيونية بدأت باستهداف اليهود أنفسهم بهدف تدمير مجتمعاتهم المحليه وتدمير اى ملاذات آمنة يلجؤون اليها، بل ووصل الامر لاختطاف الأيتام اليهود ومضاعفة معاناة اليهود المُهجَّرين فى أوروبا بسـبب حرب النازيين عليهم لإجبارهم على الهجرة الي فلسطين.

فى يوليو/تموز 1938، جمع الرئيس الأميركي روزفلت ممثلين عَنْ 32 بلدا بهدف تحمُّل مسؤولية توطين اليهود الذين كان النازيون يستهدفونهم، لكن المنظمة الصهيونية العالميه رفضت المشاركة لأن المؤتمر لم يقم على أساس إنشاء دَوْلَةٌ صهيونية فى فلسطين. وفسَّر بن غوريون عدم مشاركة المنظمة الصهيونية بأن “إيجاد مواطن آمنة لليهود سيُضعف مشروعهم”. وفي خطاب ألقاه بن غوريون فى ديسمبر/كانون الاول 1938(ب)، هاجم فكرة إنقاذ أطفال اليهود الألمان بإرسالهم الي بر الأمان فى إنجلترا، وهي عملية كانـت تجري تحت اسم “نقل الأطفال”. فبدلا مـن ان يرى جميع الأطفال اليهود الموجودين فى ألمانيا وقد أُنقِذوا بإرسالهم الي إنجلترا، اعلن بن غوريون: “مـن الأفضل ان يُذبح نصفهم على يد النازيين مـن اجل إرسال النصف المتبقي ليكونوا مستوطنين فى الدولة الصهيونية” (7).

ديفيد بن غوريون
ديفيد بن غوريون (شترستوك)

لم تكن كلمات “بن غوريون” مجرد كلمات مجازية، فبعد ان وضعت الحرب أوزارها ساعد الرجل فى عمل تخريبي امام منازل لإيواء الأطفال الناجين، وجعل الأطفال يتضورون جوعا فى معسكرات مخصصة للأشخاص الذين فقدوا بيوتهم وأُجلوا عَنْ بلادهم. ولم يكن اليتامى مـن اليهود الذين أعدّت الدولة المساكن لهم فى مأمن، فقد تعرضوا لحملات شُنَّت لاختطافهم مـن البيوت التى أُنشئت خصوصا لهم فى أوروبا، وذلك لنقلهم الي فلسطين كي يُشكِّلوا حقائق سكانية على أرض الواقع. وكان المصير اللائق بالنسبة الي هؤلاء الأطفال مـن وجهة نظر “إسحاق هيرتسوغ”، كثير الحاخامات اليهود فى فلسطين منذ عَامٌ 1937، هو اختطافهم، ومن ثم أُبعد آلاف الأطفال اليهود بالقوة مـن البيوت التى تبنَّتهم وأنقذتهم بعد وفاة آبائهم قبل اعوام، ونُفِّذ الاختطاف أحيانا بمساعدة جنود اللواء اليهودي المسلحين.

وفي عَامٌ 1946، سافر كثير الحاخامات الي أوروبا على مدى ستة اشهر لتقصِّي أماكن الأطفال والتخطيط لخطفهم، إذ كان العدد الذى وضعه نصب عينيه عشرة آلاف طفل، لكنه عندما جاء الي أوروبا وجد مقاومة عنيفة مـن قِبَل المنظمات اليهودية المحليه. فجمعية معونة الأطفال مثلا كانـت تشمل 600 طفل يعيشون فى بيوت مسيحية، لكن الجمعية لم تشأ ان تجعل منهم أيتاما مرة أخرى. وقد صبَّ هِرتسوغ جام غضبه عليها لأنها “لم تفعل شيئا لأخذ الأطفال”، واستخدم سلطته للوقوف ضدها، وتمكَّن مـن انتزاع 250 مـن الأطفال مـن بيوتهم. وفي أواخر عَامٌ 1941، اثناء كان اليهود يُنقَلون بالقطارات الي معسكرات الموت، وصفت عصابة الإرغون(ج) محاولات منحهم ملاذات آمنة خارج فلسطين بأنها “معادية للسامية”، ونشرت تحذيرات موجَّهة الي اليهود الذين يختلفون مع الفكر الصهيوني تُثنيهم عَنْ التدخل فى حق الصهاينة الإلهي ليحكموا فلسطين وشرق الأردن.

وقد جاء تخريب الملاذات الآمنة الي الولايات المتحدة عَامٌ 1944، عندما وقف الزعماء الصهاينة الغاضبون امام محاولات الرئيس روزفلت تأمين 150 ألف مسكن جديد للمُهجَّرين مـن بلادهم مـن أصل نصف مليون فى جميع ارجاء العالم. وعندما دعت الحاجة أُتي بيهود شمال أفريقيا والشرق الأوسط “لتغذية الترسانة الحربية والبشرية” التابعة للدولة الصهيونية، وفقا لتعبير “حنة براون” عضوة منظمة الهاغاناه التى شاركت فى عملية إحضارهم الي إسرائيل. وقد بدأت المنظمة الصهيونية فى شن حملات ترهيب واغتيالات وقتل يهود البلاد العربية مـن العراق وحتى المغرب، أدت الي تدمير مجتمعاتهم المحليه بالكامل (8)، وعندما وصلوا الي فلسطين المحتلة واجهوا موجات مـن التمييز والاضطهاد والعنف حتـى أصبحوا يهودا مـن الدرجة الثانية (9). وللمفارقة، لم يعمل الإرهاب والعنف الصهيوني اليهود خارج فلسطين فقط بهدف إجبارهم على الهجرة اليها، بل ايضا استهدف اليهود دَاخِلٌ فلسطين لتصفية كل مَن يقف امام المشروع الصهيوني فيها.

 

حطب الصهيونية

قامت دَوْلَةٌ الكيان الصهيوني على التعريف الذى أعطته أوروبا لليهود بأنهم عِرق مـن الأعراق على أساس الانتساب بالدم، ومنحت نفسها حق تحديد الضوابط الجينية لهذا العِرق، وهي إحدى السمات المُرتبطة بظاهرة “معاداة السامية” فى أوروبا. وكان مـن شأن ذلك ان يدفن الصهيونية فى مهدها عندما ظهرت فى أوروبا، لكن هرتزل رفض ربط أيديولوجيته الجديدة بظاهرة “معاداة السامية” عبر ادعاء أنه يُمثِّل كل يهود العالم، وأن الصهيونية هى المعيار الذى يمـيز اليهودي الصالح عَنْ اليهودي الطالح. وقد اعلن هرتزل أكثر مـن مرة ان “اليهودي الحق لا يمكنه ان يعادي الصهيونية”، وأنه “لا يفعل ذلك إلا الموشل”. (والموشل كلمة ألمانية تعني اليهودي المتدين الذى اعلن عنه هرتزل إن مجرد النظر إليه بدون لمسه يدعو للتقزز) (10).

غير ان الصهيونية فى انطلاقها عُدَّت فى أوروبا “حركة معادية للسامية” لأسباب اهم بكثير مـن كراهية هرتزل لليهود التقليديين، فقد كتب مراسل جريدة “لندن ستاندرد” فى برلين بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الاول عَامٌ 1897 قائلا: “إن فكرة إنشاء دَوْلَةٌ يهودية حديثة لا تلقى حماسا كبيرا فى ألمانيا باستثناء المعادين للسامية، فقد سمّتها صحيفة “كولنيش” مـن أشد الأفكار شطحا فى هذا العصر”. ولخَّصت صحيفة “فرانكفورتر تسايتونع” الموضوع فى مقال على هذا النحو: “إننا نقول باختصار إن هذا الانحطاط الذى يدعو نفسه معاداة السامية قد ولَّد الانحطاط الذى اتخذ مـن الصهيونية اسما له”. ورغم ذلك استمرت الصهيونية وعصاباتها المتطرفة فى ادعاء أنهم يمثلون اليهود ومصالحهم فى كل بقاع العالم، واستمدوا مـن هرتزل ومؤسسي الحركة الصهيونية ذلك الوصم الذى ألصقوه بكل مَن يعارض مصالحهم وأفكارهم الصهيونية، وأصبح اى يهودي يعارض الصهيونية “مرتدا أو خائنا” (10).

على سبيل المثال، وفي وقت مبكر مـن عمر الوجود الصهيوني فى فلسطين، عندما رفضت المُعلمة “آني لاندتو” ان تقف عند عزف “النشيد القومي الصهيوني” فى مارس/آذار 1919 بمناسبة افتتاح مدرسة جديدة للموسيقى؛ تعرَّضت للهجوم، وقارنتها جريدة “هآرتس” بشخص اسمه “يعقوب إسرائيل دي هان”، الذى وُصِف بأنه “مـن حثالة المعادين للسامية” بسـبب نقده للصهيونية، ووصفه بن غوريون بأنه “خائن”. لم يقتصر الامر على مهاجمة معارضي الصهيونية، بل اتخذ شكلا أشد فظاعة عَامٌ 1924، عندما أطلق الصهاينة الرصاص على “يعقوب دي هان”، وأصبح بذلك الضحية السادسة للاغتيالات المتصاعدة بوجه اليهود المعارضين للصهيونية، والضحية الأولى لمنظمة الهاغاناه التابعة للوكالة اليهودية. وفي 6 يوليو/تموز 1938، تسللت عناصر مـن العصابات الصهيونية الي سطح أحد الدكاكين فى مدخل سوق علون، وألقوا قنبلة على تجمُّع مـن العرب قُرب دكان لصراف يهودي فمات هو وابنه. كَمَا أعدمت عناصر العصابات الصهيونية عددا مـن رجال الشرطة اليهود الذين كانوا يعملون تحت إمرة البريطانيين (10).

بحلول عَامٌ 1940، تصاعد استهداف اليهود “غير المتعاونين”، حيـث فُجِّرت دارا السينما “عدن” و”المشرق”، ثم تعرضت مطابع جريدة “هابوكر” للهجوم، بسـبب امتناع الجريدة عَنْ طبع “بيـان” صهيوني. وعندما قام أحد رجال الشرطة اليهود بالقبض على شابين مـن المتطرفين اليهود، اجتمعت عليه ليلا عناصر مـن العصابات الصهيونية وضربوه بقضبان حديدية حتـى الموت، وقتلوا شرطيا يهوديا آخر رميا بالرصاص فى حيفا، وبعدها قامت جماعة تنتمي الي العصابات الصهيونية بقتل أربعة جنود يهود بعد ان اعتبروهم “خونة للقضية اليهودية”، وفق وصف البريطانيين للحادثة (10).

Mourners attend the funeral of Israeli soldier Staff sergeant David Bogdanovskyi, who was killed in the Gaza Strip during the Israeli army's ongoing ground operation amid the conflict with Palestinian Islamist group Hamas, at a cemetery in Haifa, Israel, December 24, 2023. REUTERS/Shir Torem
الصهيونية جنَّدت اليهود لصالح مشروعها، لكنهم غير مُهمين بوصفهم بشرا فى نظر المسؤولين الصهاينة دَاخِلٌ إسرائيل أو خارجها (رويترز)

وبالمثل، كان لقب “خائن” هو البطولة الذى أطلقته منظمة الهاغاناه على يهودي مـن السفارديم اغتالته فى مايو/أيار 1940، كَمَا أحرقت المطبعتين اللتين خدمتا المهاجرين اليهود الألمان بلغتهم الأم فى العام نفسه، ثم أحرقت عصابة الإرغون حافلتيْن مـن حافلات شركة يهودية، بينما استمرت أعمال العنف امام المحال التى تتعامل مع البضائع أو المنتجات الفلسطينية بيعا أو شراء. وتعرض اليهود الذين كانوا يرفضون دفع الأموال للصندوق القومي اليهودي للتهديد، فقد فُجرت سيارتان تابعتان ليهوديَّيْن رفضا دفع “ضريبة” خاصة فرضتها الوكالة اليهودية.

فى نوفمبر/تشرين الثانى عَامٌ 1940، وقع أشد أحداث الإرهاب فتكا لليهود المعارضين للصهيونية، وذلك عندما نقل البريطانيون مسافرين مـن ثلاث سفن الي سفينة اسمها “باتريا” كي تأخذهم الي جزر الموريشيوس حيـث كانـت توجد أماكن مخصصة للمهجَّرين هناك. وقد انتهى البريطانيون مـن نقل آخر لاجئ الي ظهر السفينة فى ليلة 24 نوفمبر/تشرين الثانى، وفي صباح اليـوم القادم حدث انفجار قوي انشقت السفينة على إثره نصفين. وفي غضون 15 دقيقة انقلبت السفينة تماما فى ميناء حيفا، وقُدِّر عَدَّدَ القتلى بمئتين مـن اليهود الهاربين مـن الحرب الدائرة فى أوروبا، منهم خمسون مـن البحارة والجنود (10).

بعد الحادثة، سارعت كلٌّ مـن عصابة الإرغون والوكالة اليهودية لنفي مسؤوليتهما عَنْ المذبحة. ورغم ان شكوك البريطانيين انصبت على الإرغون، سرعان ما تبيَّن ان التفجير كان مـن فعل منظمة الهاغاناه التابعة للوكالة تحت إمرة “موشي شاريت”، الذى أصبح رئيسا للوزراء فى إسرائيل بينما بعد، ما سبَّب إحراجا بالغا للوكالة اليهودية امام المجتمع الدولى، وجعل وسائل الإعلام الصهيونية وقتها تروِّج بأن المهاجرين قتلوا أنفسهم بإغراق سفينتهم كَمَا حدث فى أسطورة ماسادا التوراتية (10).

ثم فى يونيو/حزيران مـن العام القادم أُلقيت قنبلة على بيت السيد “تسفايغ” فى تل أبيب، تحذيرا له بسـبب عدم دفعه مَبْلَغٌ 200 ليرة. وفي يوليو/تموز اختُطِف “روزنر” مـن تل أبيب واقتيد الي مكان عُذِّب فيه بسـبب امتناعه عَنْ دفع مَبْلَغٌ 400 ليرة، وبعد ذلك بثمانية أيام انفجرت قنبلة امام بيته فى تل أبيب. وفي الشهر نفسه أُلقيت قنبلة على بيت السيد “دانكنر” فى بتاح تكفا بعد ان أُمِر بدفع 400 ليرة، وبعد ذلك بستة أيام دُمِّر بيته بقنبلة. وفي عَامٌ 1942، تلقى رجال الشرطة إخبارية مـن مخبر مجهول عَنْ سماع انفجار عند بيت فى تل أبيب، وحين استجابوا للفخ المنصوب لهم، قُتِل أربعة رجال شرطة بعد ان انفجرت قنابل دمرت البيت فور دخولهم إياه.

كان جميع القتلى مـن اليهود، وكان أحد الموتى قد أفشل هجوما فلسطينيا امام اليهود عَامٌ 1937، وكان يُراد مـن الثانى ان يشهد امام عصابة صهيونية قتلت اثنين مـن المارة اليهود اثناء عملية سرقة قامت بها. وقد استمرت هذه الممارسات طيلة السنوات التى سبقت النكبة للتضييق على اليهود الذين لم تكن آراؤهم مُرضية فى نظر قادة الصهيونية، وكذلك على اى يهودي يستعمل لغته الألمانية. فقد مُنعت مجـلة “أوريَنت” الأسبوعية التى كانـت تصدر بالألمانية بأمر مـن المجلس الصهيوني لنشر اللغة العبرية. وعندما حاول المهاجرون اليهود الناطقون بالألمانية فى مايو/أيار 1942 عَقْد مقابلة لعُصبة مناهضي الفاشية فى سينما بتل أبيب، هاجمتهم جماعات مـن المخربين ضـمَّت ابناء بعض مَسْؤُولِي الوكالة اليهودية. اما الجريدة اليومية التى صدرت بالألمانية بعنوان “بلومِنتال نويستِه ناخريخستن”، وكتب فيها مهاجرون ألمان وعكست نبرة صهيونية أخف مقارنة بالوكالة اليهودية وعصاباتها الإرهابية، فتعرضت نسخها للاحتراق ثم فُجِّرَت مطبعتها فى يونيو/حزيران 1942.

يتضح مـن التَّارِيخُ الطويل للعنف الصهيوني امام اليهود أنفسهم ما ذهب إليه عَدَّدَ مـن المفكرين بأن الصهيونية جنَّدت اليهود لصالح مشروعها، لكنهم ظلوا غير مُهمين بوصفهم بشرا فى نظر المسؤولين الصهاينة دَاخِلٌ إسرائيل أو خارجها، وهذا ما أكدته افتتاحية صحيفة “هآرتس” بعنوان “صفقة أسرى الان” (11)، حيـث اعلنت إن “الهجوم المضاد الفتاك الذى شنَّته إسرائيل على حماس فى غزة مـن جهة، والأصوات التى تتصاعد مـن الحكومة مـن جهة، كلها تدل على ان إعادة الإسرائيليين ليست على رأس اهتمامات الحكومة. والأخطر مـن ذلك ما يبدو مـن ان الحكومة قررت تفعيل بروتوكول هانيبال على نحو 150 أسيرا إسرائيليا”. بعد مرور أكثر مـن شهرين على الحرب، تصر إسرائيل على ترتيـب وضع أمني جديد فى غزة غير مبالية بما يتكبده جيشها مـن خسائر، كَمَا تواصل القصف العشوائي والوحشي غير مكترثة بالضحايا الفلسطينيين والأسرى الإسرائيليين، والأيام القادمة وحدها ستكشف ما تؤول إليه جرائم آلة القتل الإسرائيلية.

————————————————————————————-

الهوامش

(أ) المنظمة الصهيونية العالميه: نشأت عَامٌ 1897 باسم المنظمة الصهيونية فى مؤتمر بازل بسويسرا، وهدفت الي إقامة وطن قومي لليهود، وكان مـن مؤسسيها ثيودور هرتزل، الذى ساهم فى الترويج لفكرة العودة الي فلسطين. ونتج عَنْ المؤتمر إقرار برنامـج بازل لإنشاء وطن قومي لليهود، وتأسيس المنظمة الصهيونية العالميه.

(ب) ليلة الزجاج المكسور: فى 9 و10 نوفمبر/تشرين الثانى 1938، ارتكب النازيون مذابح امام يهود ألمانيا، وأُطلق على هذا الحدث اسم “ليلة الزجاج المكسور”، بسـبب الزجاج المكسور الذى تناثر فى الشوارع بعد التخريب وتدمير الشركات المملوكة لليهود والمعابد اليهودية والمنازل.

(ج) الإرغون: عصابة صهيونية شبه عسكرية وُجدت فى الفتره السابقة على إعلان دَوْلَةٌ الاحتلال الصهيوني فى فلسطين عندما كانـت خاضعة للانتداب البريطاني بين عامي 1931-1948.

————————————————————————————-

المصادر

  1. هذه ليست مأساة فحسب، بل هى وصمة عار.
  2. توماس سواريز. دَوْلَةٌ الإرهاب: كيف قامت إسرائيل الحديثة على الإرهاب. ترجمة محمد عصفور.
  3. بروتوكول هانيبال الإسرائيلي: جندي قتيل خير مـن جندي أسير.
  4. إذا جرى استخدام “بروتوكول هانيبال”، فيجب الحديث عنه الان.
  5. 13 جنديا إسرائيليا قُتلوا فى حرب غزة جرَّاء نيران إسرائيلية أو حوادث.
  6. عبد الوهاب المسيري. الصهيونية والحضارة الغربية. دار الهلال.
  7. سواريز. دَوْلَةٌ الإرهاب.
  8. عمليات بحث إسرائيلي يكشف: الموساد قتل اليهود بالمغرب وأغرق سفينة للمهاجرين لتأليب الرَّأْي العام العالمي امام المملكة وإجبار الملك على السماح لهم بالهجرة.
  9. سبعون سنة على رحيل يهود العراق.
  10. سواريز. دَوْلَةٌ الإرهاب.
  11. صفقة أسرى الان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى