جمهورية الكونغو الديمقراطية.. ثروة طبيعية هائلة وفقر متجذر | سياسة سام نيوز اخبار
تشكّل جمهورية الكونغو الديمقراطية (DRC) نموذجًا للدول التى تتداخل فيها عوامل تجعل منها مثالًا صارخًا لأمة تعاني مـن مفارقات بالغة الحدّة. تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية فى قلب أفريقيا، تقترن فيها الثروة الهائلة – مـن حيـث توفر الموارد الطبيعية – بالفقر المدقع والمتجذّر.
يُعزى الوضع المتناقض لجمهورية الكونغو الديمقراطية، الي طيف واسع مـن العوامل، أهمها ضعف مؤسّسات الدولة، وغياب الحكـم الرشيد، واستشراء الفساد. يرصد هذا المقال قراءة فى تعقيدات الوضع فى جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويستكشف التفاعل بين العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التى ساهمت فى حالة التناقض الحالية فى البلاد.
السياق التاريخي: إرث مـن الاستغلال
يمكن إرجاع جذور أزمة جمهورية الكونغو الديمقراطية الي ماضيها الاستعماري. فى اثناء الحكـم البلجيكي، تم استغلال الموارد الطبيعية الهائلة للبلاد لصالح المستعمر، بينما الفوائدُ ضئيلةً للشعب الكونغولي. لا يزال إرث هذا الاستغلال يطارد الأمة، حيـث حاولت الحكومات المتعاقبة استعادة السيطرة على موارد البلاد، والاستفادة منها لصالح مواطنيها.
تضارب الثروة والفقر
ظاهريًا، يبدو ان جمهورية الكونغو الديمقراطية دَوْلَةٌ تجتمع دَاخِلٌ حدودها تناقضات حادة. تشتهر باحتياطياتها الهائلة مـن المعادن الثمينة، بما فى ذلك الألماس والنحاس والكوبالت والليثيوم والزنك والتنغستن واليورانيوم، والكثير العديد، وتتركز بشكل أساسي فى مقاطعتَي؛ كاساي، وكاتانغا.
هذه الموارد لديها القدرة على تحويل اقتصاد البلاد وانتشال سكانها مـن الفقر. ومع ذلك، على الرغم مـن وفرة الموارد الطبيعية، لا تزال جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدهً مـن أفقر البلدان فى العالم، حيـث تعيش نسبه كبيرة مـن سكانها فى فقر مدقع.
يثير تجاور الموارد الوفيرة والفقر المتفشّي فى جمهورية الكونغو الديمقراطية تساؤلات حول ادارة واستغلال وتوزيع هذه الأصول. غالبًا ما يلقي قادة البلاد باللوم على الدول المجاورة، مثل: رواندا، وأوغندا فى نهب ثروتها المعدنية، على الرغم مـن حقيقة ان العديد مـن المناطق الغنية بالمعادن تقع بعيدًا عَنْ الحدود مع هذه الدول. تعد هذه الاتهامات كبش فداء ومصدرَ إلهاءٍ مناسبٍ بدلًا مـن معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل الاقتصاديه لجمهورية الكونغو الديمقراطية، بما فى ذلك الفساد، وسوء الإدارة، وضعف الحوكمة.
التربة الخصبة والتصنيع الغذائي
مفارقة أخرى مذهلة فى جمهورية الكونغو الديمقراطية، تتمثل فى القطاع الزراعي. تضم البلاد أكبر مسطحات مـن التربة الخصبة فى أفريقيا، مع هطول أمطار كافية، وتتميز بإمكانات زراعية يمكن ان توفر مصادر غذاء مستدام للسكان، وأن تدعم قطاع التصنيع الزراعي.
على الرغم مـن هذه الوفرة، تواصل جمهورية الكونغو الديمقراطية استيراد كمية كبيرة مـن الغذاء؛ لتلبية احتياجاتها المحليه. وقد أسهمت أوجه القصور فى القطاع الزراعي، ومحدودية الوصول الي الأسواق، ونقص الاستثمار، فى هذا الوضع المتناقض، حيـث تتوافر الموارد وتغيب الإمكانات.
يؤكد الاعتماد على الواردات الغذائية، على التحدياتِ التى تواجه القطاع الزراعي فى جمهورية الكونغو الديمقراطية، بما فى ذلك هبوط الإنتاجية، ومحدودية الوصول الي تقنيات الزراعة الحديثة، وعدم كفاية الدعـم لصغار المزارعين. إن معالجة هذه القضايا أمر بالغ الأهمية؛ لتعزيز الأمن الغذائي، وتقليل الاعتماد على الواردات، وإطلاق الإمكانات الكاملة مع توفر تربة البلاد الخصبة.
الإمكانات الكهرومائية وأزمة الطاقة
واحده مـن أكثر المفارقات وضوحًا فى جمهورية الكونغو الديمقراطية، هو قطاع الطاقة. البلد موطن لأكبر سدّ للطاقة الكهرومائية فى أفريقيا، سدّ إنجا، الذى لديه القدرة على تزويد المنطقة بأكملها بالطاقة. على الرغم مـن هذه الإمكانات الكهرومائية الهائلة، لا تزال إمدادات الطاقة فى جمهورية الكونغو الديمقراطية غير كافية. يؤكد التفاوت بين موارد الطاقة الوفيرة، وضعف إمدادات الطاقة على التحديات التى تواجه البنية التحتية للطاقة فى البلاد.
يُعزى التخلف فى قطاع الطاقة فى جمهورية الكونغو الديمقراطية الي مجموعه مـن العوامل، بما فى ذلك عدم كفاية الاستثمار، وسوء الصيانة، وقضايا الحوكمة. يعد تعزيز قطاع الطاقة، وتوسيع الوصول الي الكهرباء، وتعزيز حلول الطاقة المستدامة خطوات حاسمة نحو معالجة أزمة الطاقة، وإطلاق إمكانات البلاد للنمو الاقتصادي.
الحوكمة والفساد وضعف أجهزة الدولة
يشير مراقبون الي ضعف آلية الدولة، وسوء الإدارة، والفساد المستشري كأسباب أساسية لتحديات جمهورية الكونغو الديمقراطية. الفساد هو سرطان ابتليت به جمهورية الكونغو الديمقراطية لعقود، والعائق امام ضخّ عائدات الموارد لتصحيح حياة مواطنيها.
كانـت الثروة المعدنية للبلاد مصدر نقمة أكثر مـن كونها نعمة. لسنوات عديدة، لم تدخل الخدمات البريدية والخدمات المصرفية لغالبية مناطق الدولة. النقل البري بدوره بالغ السوء؛ نظرًا لعدم صلاحية مجموعه الطرق، وغياب الاستثمار فى تطويرها. فعلى سبيل المثال، يمر خط الربط البري بين مدينتي غوما (كيفو الشمالية) وبوكافو (كيفو الجنوبية) عبْر رواندا، لأن استخدام الطرق الداخلية سيطيل الرحلة بمعدل أيام بدلًا مـن ان تستغرق بضع ساعات فقط.
أدى الافتقار الي الشفافية والمساءلة والمؤسسات الفعالة الي إعاقة قدرة البلاد على تسخير مواردها الطبيعية لصالح مواطنيها. ينتشر الفساد على جميع مستويات الحكومة والمجتمع، ما يؤدي الي سوء ادارة الموارد واختلاس الأموال العامة، وإثراء قلة مختارة على حساب الأغلبية.
حلول ممكنة
تتطلب معالجة التناقضات الحادة فى جمهورية الكونغو الديمقراطية نهجًا متعدد الأوجه يعطي الأولوية للحكم الرشيد والشفافية والمساءلة والتنمية المستدامة. ويعد الاستثمار فى القطاعات الحيوية – مثل: الزراعة والطاقة والبنية التحتية، وتعزيز الإدارة المسؤولة للموارد الطبيعية، ومكافحة الفساد – خطوةً أساسيةً نحو الاستفادة مـن إمكانات البلد وتحسين مستوى رفاه مواطنيه.
إن إلقاء اللوم على الدول المجاورة بالتسبب فى المشكلات الاقتصاديه لجمهورية الكونغو الديمقراطية بات بمثابة سردية مناسبة لصرف الانتباه عَنْ القضايا الحقيقية التى ابتليت بها البلاد، بما فى ذلك إخفاقات الحوكمة والفساد ونقاط الضعف النظامية.
إن معالجة هذه الأسباب الجذرية أمر ضروري لتعزيز التنمية المستدامة، وتحسين تقديم الخدمات فى قطاعات، مثل: التعليم، والصحة، والبنية التحتية، وإطلاق العنان لإمكانات البلاد الكاملة.
الآراء الواردة فى هذا المقال هى آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.