دمشق – رغم الازدحام الظاهري للمارة والمتسوقين فى سوق الحميدية الأثري فى دمشق القديمة، فإن ذلك لا يعدو ان يكون “طريق عبور ونزهة مجانية تحت سقف السوق فى قيظ الظهيرة” كَمَا يقول باسم (37 عاما) صاحب مكتبة فى سوق الحميدية للجزيرة نت.
ويلاحظ العابرون امام حوانيت السوق العريق أصحابَ المحال والتجار والعاملين وهم يجلسون على كراسيهم الخشبية والبلاستيكية بدون عمل، كمن يشاهد فيلما طويلا منذ ساعات الصباح الباكر وحتى المساء، بينما تبدو معظم الأسواق الفرعية لسوق الحميدية خالية سوى مـن العاملين بها وبعض المارة.
وتواجه معظم التجارات والصناعات والحرف التقليدية العريقة فى سوق الحميدية وأفرعه تحديات غير مسبوقة للاستمرار تحت وطأة التضخم والظروف الاقتصاديه التى اضطرت بعض أصحاب تلك الأعمال الي إغلاق محالهم أو وضعها برسم التسليم أو الاستثمار.
جمود حركة البيع والشراء
“الحركة شبه معدومة والتجار يكشّون الذباب”؛ بهذه العبارة يجيب الحاج هاني (62 عاما) -صاحب محل لبيع الأقمشة فى الحميدية- عَنْ سؤال حول حركة البيع والشراء فى السوق مؤخرا.
ويضيف -فى حديث للجزيرة نت- “لم يعد بإمكان السوريين شراء متر قماش مـن الدانتيل أو الجوخ بسعر يتراوح بين 250 و400 ألف ليرة (مـن 20 الي 30 دولارا) وهو ما يفوق الرواتب الشهرية لبعضهم، اللهم المضطر منهم بسـبب مناسبة خاصة، فيضع ما فوقه وتحته ليتم الواجب”.
ويشهد سوق الحميدية مؤخرا جمودا فى حركة البيع والشراء مع انهيار القوة الشرائية لرواتب السوريين الذى لا يتجاوز متوسطها 250 ألف ليرة (19 دولارا)، وارتفاع أسعار البضائع فى السوق بشكل كثير اثناء الأشهر القليلة الماضية متأثرة بموجات التضخم المتعاقبة.
وتجاوز سعر أوقية بعض البهارات والتوابل 100 ألف ليرة (7.6 دولارات)، بينما سجل سعر القبقاب الخشبي (حذاء تقليدي) جيد النوعية 45 ألف ليرة (3.5 دولارات)، وقفزت أسعار الملبوسات والأقمشة بنسب تتراوح مـن 50 الي 150% مقارنة مع أسعارها فى بداية العام الحالي.
وأدى هذا الجمود الي إقفال بعض المحال التجارية أبوابها وتوقفها عَنْ العمل بانتظار تقرير مصير هذه المحال العريقة والتي يعود تاريخ بناء واستثمار بعضها الي أوائل القرن الـ19، وبحسب التجار فإن الكثيرين منهم يفكرون جديا بوقف تجارتهم وأعمالهم فى السوق والانتقال للاستثمار فى أماكن أكثر استقرارا.
وتعاني شريحة التجار فى سوق الحميدية وغيرها مـن أسواق دمشق مـن صعود الرسوم الضريبية، وصعوبة استيراد البضائع، وغلاء سعر البضائع المصنّعة محليا بسـبب صعود تكلفة الإنتاج، وارتفاع سعر الكهرباء التجارية بنحو 150% منذ سبتمبر/أيلول الفائت، يضاف كل ذلك الي إحجام المتسوقين عَنْ شراء البضائع لغلاء سعرها مقارنة برواتبهم.
ويشير الحاج هاني الي ان “الحكومة لا تراعي الظروف الاستثنائية التى تمر بها التجارة والصناعة فى سوريا، وتحمّل التجار والصناعيين أكثر مما يمكنهم ان يتحملوا، فهناك مسألة التأخر فى المنصّة (آلية حكومية لتنظيم استيراد البضائع مـن الخارج) والذي ينعكس على التاجر سلبا، وهناك مسألة ضريبة المالية التى أصبحت غير مقبولة، كَمَا ان بضائعنا تحولت لدى السوريين الي كماليات بسـبب الأزمة المعيشية”.
ويواجه التجار معوقات وتحديات لتوفير العملات الأجنبية وتحديد مصدرها للجهات المعنية، كَمَا ويواجهون مشكلات مع منصه تمويل المستوردات الخاصة بالمصرف المركزي السوري بسـبب البطء فى آلية عملها.
وكان اقتصاديون سوريون قد وجهوا انتقادات لآلية عمل المنصة؛ حيـث أدت الي تراجع كثير فى كمية البضائع المعروضة فى الأسواق للبيع، وتراجع فى توفر المواد الأولية لجميع الصناعات، وعدم كفايتها لكل المصانع، وهذا يتسبب بارتفاع أسعار المواد الأولية وبالتالي أسعار السلع.
بينما الحكومة قد رفعت أسعار المحروقات بنسبة تصل الي 200% تقريبا، فى أغسطس/آب الماضي، تزامنا مع انهيار سعر صرف الليرة امام الدولار الذى يصل سعر صرفه الي نحو 13 ألف ليرة مقارنة مع 7 آلاف ليرة للدولار فى بداية العام، ما أدى الي اندلاع موجة غلاء طالت معظم المواد الغذائية والاستهلاكية.
مهن مهددة بالانقراض
وإلى جانب السوق الرئيسي، يشتهر سوق الحميدية بأسواقه الفرعية المتخصصة كسوق العصرونية وسوق البزورية وخان الجمرك، وجميعها عبارة عَنْ تجمعات تجارية متخصصة فى بيع نوع محدّد مـن البضائع كالتوابل والعطور والأقمشة والحاجات المنزلية منذ عقود طويلة.
ويواجه التجار والحرفيون فى هذه الأسواق واحده مـن أصعب محنهم منذ بدء أعمالهم قبل عقود؛ فغلاء المواد الأولية، ومعوّقات الاستيراد والتصدير، وجمود حركة البيع والشراء؛ كلها عوامل جعلت مـن الاستمرار فى العمل تحدّ كثير لا يمكن التنبؤ كيف سيتم حسمه.
ويقول سومر (44 عاما)، وهو صاحب محل لبيع التحف الشرقية المصنّعة يدويا، للجزيرة نت “إن أوجه التحدي كثيرة، فغياب الحركة السياحية منذ اعوام شلت السوق وجعلتنا نغيّر فى كل تفاصيل صناعتنا ما جعلها أقل جودة لصالح ان تكون أرخص ثمنا ومناسبة للزبون المحلي”.
ويشير سومر الي معوقات أخرى تتمثل فى غلاء ثمن المواد الأولية نتيجه غلاء أجور النقل والعمال، وارتفاع تكلفة صناعة التحف الشرقية التى تحتاج الي الآلات الكهربائية بسـبب غلاء سعر المحروقات التى تعتمد عليها المولّدات الكهربائية فى اثناء انقطاع التيار، وتحول المشغولات اليدوية الي سلعة كمالية بالنسبة الي معظم السوريين مع تفاقم أزمة المعيشية.
وتدفع هذه الظروف الصعبة الحرفيين فى مختلف الأسواق إما الي تغيير مهنهم وهو ما يهدد باندثارها، أو الي إجراء تعديلات جذرية على تلك الحرف والمهن لتتلاءم مع متطلبات السوق، وهو ما يفقدها عنصرا أساسيا مـن العناصر المكونة لقيمتها الثقافية والتراثية.
وإلى جانب صناعة الحرف والمشغولات اليدوية، تعاني تجارات الأقمشة والألبسة الجاهزة والتوابل مـن صعوبات بالغة للبقاء على قيد الحياة فى اثناء الْأَوْضَاعُ الاقتصاديه الراهنة ما يدفع ببعض التجار الي إغلاق محالهم العريقة.
ويشكو التجار فى سوق الحميدية وأسواقه الفرعية مـن الرسوم الضريبية المرتفعة، والتكليف المالي السنوي التى تفرضه وزارة المالية والذي يتجاوز فى بعض الأحيان مَبْلَغٌ مليوني ليرة سورية (153 دولارا) لبعض المحال، الي جانب الارتفاع الكبير لأسعار الكهرباء.
ويعتبر مؤرخون سوق الحميدية واحدا مـن أعرق أسواق الشرق؛ فقد تم بناء القسم الغربي منه فى عَامٌ 1780 على عهد السلطان العثماني عبد الحميد الاول وتحت إشراف والي دمشق محمد باشا، وأطلق عليه آنذاك اسم “السوق الجديدة”، بينما بني قسمه الشرقي فى عهد السلطان عبد الحميد الثانى (1842-1918).
ويبلغ طول سوق الحميدية الرئيسي نحو 600 متر، ويتفرّع عنه عددا مـن الممرّات التى تضم خانات وأسواق فرعية مثل سوق “اتفضلي يا ست” المتخصص ببيع الأقمشة ولوازم الأعراس، وسوق التوابل (البزورية) الذى يقصد للعثور على التوابل والأعشاب النادرة، وسوق الصاغة المتخصص ببيع الذهب، وسوق السروجية المتخصص ببيع سروج الخيل، وسوق القيشاني والمناخلية والعصرونية وغيرها مـن الأسواق التاريخية العريقة.
وطالت سوق الحميدية العديد مـن الحرائق كان آخرها حريق عَامٌ 1920 الذى التهمت نيرانه عددا مـن المحال التجارية الأثرية، وكادت ان تصل الي الجامع الأموي بعد اشتعالها مدة 3 أيام متواصلة، ما اضطر الدولة الي هدم المزيد مـن البيوت لوقف امتداد النيران.
وبدءا مـن تسعينيات القرن الماضي تم الاعلان عَدَّدَ مـن المبادرات التى تهدف الي ترميم السوق والحفاظ على تراثه المعماري عبر ترميم الواجهات المتضررة والعناصر الزخرفية بالتعاون مع اليونيسكو ومنظمات دولية أخرى، بينما آخر عمليات الترميم عَامٌ 2004 حيـث أعيد تأهيل السوق تحت إشراف حرفيين وخبراء ترميم.