الاخبار العربية والعالمية

عقدة فرنسا تجاه المسلمين: أسبابها وسبل فكّها | آراء سام نيوز اخبار

|

كثير مـن المتابعين للشأن الفرنسي يصعب عليهم فهم ما يسمّى بالاستثناء الفرنسيّ البائس المتعلق بالإسلام والمسلمين. الصعوبة تتأتى مـن صورة فرنسا المخيالية، بلد الأنوار والحرية والديمقراطية، ومن جهْل بتاريخها الاستعماري والاحتلال المغتصب للثروات، والمهندس للعقول والنفوس. نحاول فى هذا المقال ان نتعرض الي الأسباب العميقة للعدائية الفرنسية، وكيفية الحد منها وتجفيف منابعها.

فى البدء نحتاج الي تنسيب الأشياء، متى كانـت فرنسا فى علاقة ودية مع الإسلام والمسلمين؟

إن المستعرض وقائع التَّارِيخُ يلحظ – دون اقل عناء- هذا المنسوب القوي مـن العدائية للإسلام والمسلمين. مع الملاحظة انّه بالرغم مـن كثافة الصخب الاعلامي، الذى نشهده اليـوم، فإنّ هذا المنسوب- فى تقديري- فى هبوط مستمر؛ باعتبار اتساع المسافة بين الواقع المعيش والمخيال الوهمي. بعد هذه الملاحظة العامة نمرّ الي الحديث عَنْ الأسباب العميقة لهذه العدائية، وسنتوقف عند خمسة أسباب رئيسية:

السبب الاول: ما زالت فرنسا تتعامل مع المسلمين باعتبارهم رعايا لبلدان محتلة (indigènes). بمعنى ان فرنسا ما زالت محكومة ذهنيًا- وليس واقعيًا- بمنطق الاحتلال بخصوصيته الفرنسية القائمة على تدمير ثقافة الآخر.

السبب الثانى: فرنسا تشعر بأنّ ظهرها محمي، فمهما صعّدت مـن سياستها مع المسلمين فإنّها ستجد مـن النخبة المستلبة فى البلدان الأم لمسلمي فرنسا مـن أصول غير فرنسية دعـمًا لا مشروطًا بل منوالًا تستند إليه؛ لإعطاء مشروعيّة لسياستها امام المسلمين. طبعًا مـن حق أئمة الحداثة المغشوشة ان يدخلوا التراب الفرنسي متى شاؤوا، وكيفما شاؤوا لدعم سياستها، ولكن يمنع ذلك على أئمة المسلمين مـن أصحاب المبادئ مـن العالم الإسلامي؛ باعتبار ذلك مـن وجهة نظرها تدخلًا أجنبيًا.

السبب الثالث: فرنسا تنتقم مـن نفسها؛ لأنها فشلت فى سياسة الاستلاب التى راهنت عليها. فلم يقطع المسلمون الوافدون مع هُويتهم الدينية والثقافية، واختار أغلبهم التعايش مع قيم الجمهورية. ولهذا ما زالت تعتقد ان ما لم يحصل طوعًا يمكن ان يحصل كرهًا.

السبب الرابع: على خلاف ما هو شائع، مشكلة فرنسا ليست مع التطرف الإسلامي- بل إن التطرف الإسلامي، إن لم يوجد كان مـن الضروري إيجاده – بل مشكلتها مع الإسلام المعتدل. وعليه فإن البعض- وخاصة مـن الأجيال غير الشبابية- يعمل على تغذية هذه العدائية لخلق حالة مـن التلبيس التى تأمل فرنسا ان تؤدي الي التخويف مـن الإسلام.

السبب الخامس: تعتـبر فرنسا نفسها المدافعة عَنْ هوية المجتمع؛ اليهودية- المسيحية، وتعيش حالة مـن الهستيريا امام واقع متغير سيفضي لا محالة الي تحدث نوعي فى طبيعة المجتمع، بحيث يصبح مـن طبيعة ذات أبعاد ثلاث: مسيحي، يهودي، إسلامي. ولا ننسى ان السياسة العدائية التى نشهدها اليـوم امام المسلمين فى فرنسا، مورست- وبشكل لعلّه أفظع- مع اليهود قبل حقبة الثقافة المسيحية- اليهودية.

ما العمل؟ وكيف يمكن الحد مـن هذه العدائية؟

لا شك ان قدرة المسلمين على التأثير إعلاميًا لمواجهة هذه الظاهرة ضعيفة، على الأقل حاليًا. وقدرتهم على التأثير سياسيًا تكاد تكون منعدمة، وعليه لم يبقَ أمامهم إلا إمكانية التأثير الاجتماعي فى العلاقة بالآخرين، والتأثير القانوني فى العلاقة بالدولة والتأثير الديني فى العلاقة بالمسلمين أنفسهم.

التأثير الاجتماعي:

فى هذا العالم المعولم، يكاد الافتراضي يصبح هو المعبّر عَنْ حقيقة واقعنا. بمعنى آخر؛ انَّ العولمة جعلت القريب المادي بعيدًا، والافتراضي البعيد قريبًا افتراضيًا، وهذا أدّى الي إخراج الواقع المحسوس مـن دائرة الاهتمام. الامر الذى أنتج تضخمًا فى وسائل الاتصال وضعفًا كثيرًا فى قيمة التواصل، وخاصة مع المحسوس القريب. فتجد مـن يتواصل افتراضيًا مع العشرات والمئات وحتى الآلاف، ولم يفكر فى التواصل مع جاره بالجنب. ولكن التواصل الافتراضي الرقمي تواصل بلا روح، وأحيانًا بلا طعم، ما يخلق حالة مـن الشعور بالعزلة عَنْ عالم البشر، وهي- لعمري- مفارقة مـن أنكد مفارقات هذا العصر. وعليه فإن المسلمين إذا وعَوا اهميه هذا الامر فى تعاملهم مع محيطهم الاجتماعي، وأعطوه هذا الدفء الذى يفتقده، فسيغيرون وبسرعة الانطباع الذى يريد ان يرسخه الخطاب العدائي ضدهم. هذا الامر لا يريد الي أموال كثيرة ولا الي إعلام، يريد فقط الي قلوب مفعمة بالحب للإنسان. لا يمكن ان نتخيل تأثير الانتشال النفسي لكثير مـن الناس الذين فقدوا الإحساس بالوجود. ذلك مـن السبل التى تساعد على إزالة هذا الانطباع السلبى عَنْ المسلمين، ولا يريد الي جهود كبيرة، بل الي وعي بأهميته، وبعد ذلك يمكن لكل فرد ان يفعّله بالطريقة التى يراها مناسبة.

أمر آخر فى المجال الاجتماعي على قدر مـن الأهمية، تعوّد المسلمون فى أوروبا على الخروج الي الشارع فى قضايا تهم العالم الإسلامي، وأساسًا القضية الفلسطينية أو قضايا ترتبط بالطقوس الدينية، وهكذا يثبتون عمليًا- وخلافًا لما يعتقدون- انّهم علمانيون. لا تهمّهم قضايا الفقر والتهميش التى يعاني منها كثير مـن الفرنسيين، لا تهمّهم قضايا الصحة وقضايا البيئة. مـن واجبهم ومن مصلحتهم ان يكونوا الي جانبهم. كثير مـن قضايا هذا البلد قضاياهم، ولها تأثير مباشر على مستقبلهم ومستقبل ابنائهم، خاصة ان الدفـاع عَنْ قضايا العدالة مـن صميم دينهم، ولكن فى الوقت نفسه هو البوابة التى يدخلون منها الي قلوب الآخرين. إذا لم يجد ضحايا الرأسمالية المتوحشة والناعمة- وما أكثرهم- المسلمين الي جانبهم، ولم يشعروا بأن آلامهم واحده وهمومهم واحده فسيصدقون كل ما يقال عنهم.

الجانب القانوني:

احترام القوانين وتغييرها بالأساليب التى يجيزها القانون علامة تحضر الشعوب. يقول الضعفاء: القوانين وضعها الأقوياء فلماذا نحترمها؟ ولكن بدل ان يعملوا يدًا واحده على تغييرها يعمدون الي التحايل عليها، ولذلك كثيرًا ما يسقطون فى شر أعمالهم. صحيح ان الأقوياء هم مـن يتلاعبون بالقوانين ولكن بحرفية عاليه تجعل القانون نفسه عاجزًا عَنْ متابعتهم. سادت، للأسف، عند بعض المسلمين فكرة التصادم والتحيّل على القانون؛ بعضهم بدعوى ان احترام القانون يكبّل الضعفاء، وآخرون بدعوى ان قوانينهم تحمي مسروقاتهم، دمّروا بلداننا وسرقوا باسم القوة، ويريدوننا ان نستسلم لهم باسم القانون، فنحن عندما نتحايل على القانون فى الحقيقة -حسب زعمهم- نسترد بعض الفتات مـن حقوقنا المسلوبة. لا يسع المجال هنا لمناقشة هذه التبريرات الواهية، الذى يهمنا هى الصُّورَةُ التى ترسخها هذه الممارسات فى أذهان الآخرين. الإنسان بالقيم التى يحملها وليس بالمنافع التى يتحصل عليها بالطرق الملتوية. احترام القانون فى حد ذاته قيمة أخلاقية، الالتزام بها يبعد الإنسان عَنْ الشبهات، خاصة عندما يكون تحت مجهر يعمل على مدار الساعة، ويجب ألا ننسى ان ما يرتكبه المسلم مـن صغائر يصبح عند الإعلام المتأهب لكل زلّة كبائر. الالتزام بالقانون- فضلًا على كونه ضرورة أخلاقية- هو سبب مـن الأسباب الهامة التى تساعد على إزالة الانطباعات السيئة عَنْ المسلمين، والتي يستثمرها الخطاب العدائي بنجاح. الالتزام بالقانون يدخل المسلم فى عالم المنافسة المجانية، ويفرض عليه الإتقان فى كل أعماله.

الإعلام التواصلي:

مـن السهل مناقشة الفكرة بالفكرة، ومن السهل بيـان ضحالة الفكرة المتهافتة، ولكن مـن الصعب جدًّا إزالة انطباع إذا ترسّخ، والانطباع يترسّخ بالصورة، والصورة لا تزيلها إلا صورة مغايرة، ومن هنا تأتي اهميه المادة الإعلامية، وليس الوسيلة الإعلامية. كان امتلاك الوسيلة الإعلامية يمثّل مشكلة كبيرة فى السابق، ولكن الان مع التّدفق الاعلامي وتعدّد وسائله أصبح مـن اليسير امتلاكها، ولكن المشكلة فى المادة الإعلامية التى تتحرك ضوء سياسة اعلامية ذات بعد إستراتيجي حتـى تكون مؤثرة وقادرة على صناعة الرَّأْي العام أو على الأقل تعديله.

على المستوى الفكري والتعليمي:

مـن المهام التى يجب ان تعكف عليها النخبة المسلمة- بكل جرأة وشجاعة- المراجعة الفكرية والنقدية، إنها مـن أعقد المهمات وأخطرها. فى تراثنا الحضاري أفكار ومواقف وممارسات، لا تشرّف المسلمين. هى لا تختلف حقيقة عَنْ مثيلاتها فى الحضارات الاخرى، الفرق الوحيد فى الحضارات الاخرى جعلوها جزءًا مـن التَّارِيخُ وربطوها بسياقاتها الاجتماعية والتاريخية، وفي حضارتنا جعلوها فوق التَّارِيخُ، قوية إدانة يحاسب عليها المسلم فى كل مكان وزمان. لا شك ان عدم النزاهة العلمية لعب دورًا مهمًا فى ذلك، ولكنّ المسلمين عليهم أيضًا مسؤولية كبيرة؛ لأنّ تاريخهم ما زال يتحكم فى حاضرهم. لم يشتغلوا عليه بالشكل العلمي المطلوب، لم يقوموا بالمستخلصات الضرورية منه ويعيدوا جزئياته التى أنهكتهم الي سياقاتها التاريخية والاجتماعية. التَّارِيخُ إن لم تتحكم فيه يتحكم فيك، ويستخدمه الآخرون لخنقك. ولكن ما يهمنا هنا تحديدًا تاريخ الفقه الإسلامي، مقاصد الدين كثيرًا ما تمّ تغييبها فى الثقافات السائدة فأعاقت النفاذ اليها، بل أحيانًا تصادمها. وبما ان أفهام الدين مـن كسب الإنسان، فكل كسب بشري يجب ان يعـرض على محك العلم مـن اثناء لآخر، فلا يصح القول بقائله، ولكن يصح بمتنه اثناء يصمد امام النقد.

المقررات الدراسية المعتمدة فى المدارس والمعاهد الإسلامية مليئة بالأقوال والأحكام، إذ جعلوا منتجات عقولهم البشرية وحيًا منزهًا عَنْ المخالفة، لكن يجب وضعها على بساط البحث العلمي الرصين بما يلائم روح العصر. هذا عمل ضروري، وللأسف، تأخر كثيرًا، ولكنه لا يكون مثمرًا إلا عندما يكون نابعًا مـن إرادة ذاتية، وليس استجابة لنزوات خارجيّة مفروضة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى