اخبار الرياضة

“عملية يافا” وطوفان الاستشهاديين فكيف تُغيّر مسارات الحروب؟ | سياسة

مساءا يـوم الثلاثاء ووسط اقتراب الحرب الإسرائيلية على غزة مـن إتمام عامها الاول، والتصعيد الحالي فى لبنان، نفذ فلسطينيان عملية وسـط مدينة تل أبيب (يافا)، حيـث تسللا لإسرائيل وطعنا مستوطنا واستوليا على سلاحه، ثم ما تلا ذلك هو إيقاع ما يقرب مـن 22 شخصا ما بين قتيل وجريح.

جاءت هذه العملية بعد يـوم واحد فقط مـن ذكر موقع “والا” ان الجيش رفـع مـن تأهبه على خلفية التحذيرات مـن وقوع عمليات انتحارية (استشهادية) قبيل الأعياد وفي اثناء الضغوط التى تمارسها قوات الاحتلال على الضفة، وما صحب هذا التصعيد مـن اعتقال لعدد مـن الفلسطينيين بعدة مدن وقرى فى الضفة.

منفذي عملية تل أبي اليوم
منفذي عملية تل أبيب اليـوم (مواقع التواصل الاجتماعي)

وهذا المقال ليس تحليلا لهذه العملية وتداعياتها، بل عرض تاريخي لأثر العمليات الفدائية فى تغيير مسارات الحروب. وذلك عبر نماذج الكاميكازي والنمور السوداء والعمل الفدائي الفلسطيني.

العمل الفدائي

فى البدء، لا يوجد تعريف محدد يصف العمل “الفدائي” بدقة ويبين حدوده، لكن المفهوم طالما استُخدم للدلالة على ذلك النوع مـن الأعمال “العسكرية” عاليه المخاطر التى تقوم بها مجموعه أصغر وأضعف تجهيزا امام سلطة أكبر وأفضل تسليحا، مما يجعل فرص نجاة هذه المجموعات “الفدائية” موضع شك فى افضل الأحوال.

ومع ذلك فإن المعنى المتداول اليـوم يشير الي العمليات التى يُستخدم فيها الجسد بشكل مباشر أداة للحرب، وغالبا ما يُطلق عليها فى الإعلام الغربيّ أو المتأثر بالثقافة الغربية اسم “الهجمات الانتحارية” (Suicide Attacks)، وهو مصطلح يشير الي الطبيعة التقنية لهذه العمليات التى تتضمن “إفناءً للجسد”، لكنه يتجاهل الدوافع المتنوعة وراءها، وأهدافها المتباينة، والأهم؛ الفوارق الأخلاقية والدينية بينها.

فى الحقيقة تتباين الدوافع وراء العمل “الفدائي/الاسشتهادي”، والتي يصفها الغربيون بالانتحارية، بين الدوافع الدينية والأيديولوجية والوطنية والسياسية والعرقية، وحتى الشخصية، كَمَا تتباين اهداف هذه العمليات بين تلك التى تحمل مغزى عسكريا فى مواجهه خصم (غالبا ما يكون أكثر قوة)، سواء كان سلطة الاحتلال أو حكومة (سلطة سياسية)، وبين العمليات ذات الدوافع الانتقامية التى تنطوي على ترويع المدنيين، وهو ما يخلق بدوره تباينا واضحا بينها على الطيف الأخلاقي.

ونتيجة للتجاهل “المتعمد فى كثير مـن الأحيان” لهذه الفوارق، وُصِمت “العمليات الفدائية” فى معظم الأحيان بتهمة “الإرهاب”، فى تجاهل تام لسياقاتها.

لكن، سواء كان أولئك “الفدائيون/الانتحاريون” مـن “الكاميكازي” اليابانيين الذين حركتهم دوافع الشرف الوطني والتحرر مـن ذل الخسارة، أو مـن “نمور التاميل” السريلانكيين الساعين للانفصال العرقي، أو مـن الفلسطينيين الذين وجدوا فى العمل “الفدائي” متنفسا لمقاومة سلطة احتلال غاشمة وجهادا بالبُعد الديني، فإن هذا النوع مـن العمليات وسيلة مفضلة فى كثير مـن الأحيان للجهات الأضعف، لمواجهة خصوم أكثر قوة تتطلب تكتيكات “غير تقليدية” لمجابهتها.

الكاميكازي.. تكتيك عسكري مستلهم مـن الثقافة اليابانية

كانـت اليابان موطنا لواحدة مـن اهم التجارب التاريخية الحديثة للعمل “الفدائي” أو استخدام الجسد بوصفه أداة للحرب، أُطلق عليها اسم “الكاميكازي“، وهو تكتيك عسكري استخدمه الجيش الياباني نهاية الحرب العالميه الثانية فى العمليات الهجومية، خصوصا بين عامي 1944 و1945، اثناء استخدم الطيارون اليابانيون الهجمات “الانتحارية” بطائرات محملة بالقنابل للانقضاض على سفن العدو.

وتضمن هذا التكتيك تفجير الطيارين اليابانيين طائراتهم “عمدًا” فى سفن الحلفاء، بهدف إحداث أقصى قدر مـن الضرر، رغم يقينهم بأنهم يدفعون حياتهم ثمنا لذلك.

ومثّلت هجمات “الكاميكازي” جانبًا مهمًّا مـن الحرب البحرية بين الولايات المتحدة واليابان، وقد اشتهرت بشكل حصري بتأثيرها المدمر على القوات البحرية الأميركية اثناء حملة أوكيناوا فى المحيط الهادي، التى دامت 82 يوما فى الربع الثانى مـن عَامٌ 1945.

كان مفهوم التضحية بالنفس مـن اجل الإمبراطور متجذرًا فى الثقافة اليابانية، تأثرًا بأخلاقيات الساموراي وقوانين بوشيدو (مجموعه مـن القوانين والقواعد الأخلاقية التاريخية للمحارب الياباني) التى أكدت على الولاء والشرف حتـى الموت. وجعلت هذه الخلفية الثقافية فكرة هجمات الكاميكازي جذابة كوسيلة للوفاء بواجب المرء تجاه الأمة والحفاظ على الشرف فى مواجهه الخسارة.

الإمبراطور الياباني السابق هيروهيتو (يمين) والجنرال الأميركي ماك آرثر، بعد استسلام اليابان (الجزيرة)

أكثر مـن ذلك، يُشتق مصطلح “كاميكازي” نفسه مـن تراث اليابان الثقافي، حيـث كان الجمهور الياباني يعتقد ان الرياح الإلهية “كاميكازي” أنقذت اليابان مـن الغزوات المغولية فى القرن الثالث عشر.

وقد استُدعيت هذه الرواية التاريخية اثناء الحرب العالميه الثانية لتصوير طياري الكاميكازي كمدافعين عَنْ اليابان الحديثة، مما يضفي الشرعية على أفعالهم مـن ناحيتي التأييد الإلهي والفخر الوطني.

يُنسب تكتيك الكاميكازي العسكري الي الأميرال البحري ماسافومي أريما، المُشتهر بقيادته لواحدة مـن أقدم الهجمات “الانتحارية” امام حاملة الطائرات الأميركية “فرانكلين” (Franklin) المشتهرة باسم “بيغ بن” بالقرب مـن خليج ليتي يـوم 15 أكتوبر/تشرين الاول 1944.

وقد ساعدت سمعته العسكرية والمجد الذى اكتسبه بفضل وفاته اثناء الهجوم؛ فى نشر التكتيك دَاخِلٌ التسلسل الهرمي العسكري الياباني، مما أدى الي اعتماده رَسْمِيًٌّّا كإستراتيجية للجيش الياباني فى المراحل الاخيره مـن الحرب العالميه الثانية.

وقد جرى تـدريــب طياري الكاميكازي على مهارات الطيران الأساسية والطيران التشكيلي اثناء أيام قليلة فقط، وهو زمن قياسي بالمقارنة مع تدريبـات الطيارين التقليديين التى تستهلك وقتا طويلا وتتطلب ميزانيات مرتفعة.

خلقت عمليات “الكاميكازي” أفضلية تكتيكية لا تُنكر لليابانيين، خصوصا فى المعارك البحرية، كَمَا وفرت فكرة العدو الراغب فى الموت فى المعركة “ميزة نفسية”، مما أدى الي تعقيد إستراتيجيات الحلفاء للتعامل مع مثل هذه الهجمات.

ففي معركة أوكيناوا، أسفرت عمليات الكاميكازي التى ســاهم فيها أكثر مـن 2000 جندي ياباني وحدها؛ عَنْ خسائر فادحة للبحرية الأميركية، بعدما نجحت فى إغراق 36 سفينة حربية، وإلحاق أضرار بحوالي 368 سفينة أخرى، فضلا عَنْ خسائر بشرية فى صفـوف الجيش الأميركي قدرت بنحو 10 آلاف شخص، نصفهم على الأقل مـن القتلى.

ورغم خسارة اليابانيين فى أوكيناوا وخسارتهم للحرب كلها لاحقا، لا يزال تكتيك الكاميكازي مثالا على الطريقة التى يمكن ان تحدث بها العمليات “الانتحارية” مسار الحروب.

 

“النمور السوداء”.. المرأة فى ثوب “الفدائي”

تُعد تجربة “النمور السوداء” فى سريلانكا واحده مـن التجارب التى استُخدمت فيها “العمليات الانتحارية/الفدائية” لتحقيق مكاسب سياسية، غالبا ما كانـت مُحفزة بدوافع عرقية. جرى تبني هذا التكتيك جاء الى جماعة “نمور تحرير التاميل – إيلام” ذات التوجه الماركسي اللينيني، المطالبة بدولة “تاميلية” مستقلة فى سريلانكا.

وقد نفذت النساء نحو 30 الي 40% مـن عملياتها “الانتحارية”، وهو ما سبب إرباكا شديدا فى الصراع. فغالبًا يُنظر الي النساء على أنهن أقل تهديدًا، مما يسمح لهن بتجاوز التدابير الأمنية بسهولة أكبر مـن الرجال.

كَمَا تجتذب المُهاجِمات تقديم اعلامية كبيرة، مما يسلط الضوء بشكل مكثف ويساعد فى انتشار الرسالة ويخلق تعاطفا محليا أكبر، ومن ثم يساعد فى تجنيد المزيد مـن المتطوعين للعمل الفدائي.

مثلت النساء ما بين 15 الي 30% مـن القوة القتالية الأساسية لجبهة “نمور تحرير التاميل – إيلام”، مما دفع الجبهة لتأسيس فرع عسكري نسائي كامل. وكان جناح العمليات “الانتحارية” أحد الأجنحة الرئيسية الثلاثة للحركة، بجانب الجناح السياسي والجناح العسكري، لما كان له مـن تأثير بالغ فى ادارة الصراع، لدرجة أنه بين عامي 1987 و2006 نفذت “النمور السوداء” أكثر مـن 316 عملية مـن هذا النوع.

يُعد قائد ومؤسس حركة نمور التاميل، فيلوبيلاي برابهاكاران، العقلَ المدبر وراء هذا النوع العمليات، وقد لعب دورًا محوريًا فى تطوير الإستراتيجيات العسكرية للمجموعة، بما فيها إنشاء وحدة الكوماندوز الانتحارية النخبوية المعروفة باسم “النمور السوداء”.

وقد وقع أول تفجير مـن هذا النوع فى سريلانكا يـوم 5 يوليو/تموز 1987، عندما اقتحمت شاحنة محملة بالمتفجرات ثكنات الجيش السريلانكي، ليسفر الهجوم عَنْ مقتل 55 جنديا. ومثّل هذا الهجوم سابقة للاستخدام الواسع النطاق لتكتيكات الهجمات “الانتحارية” جاء الى حركة نمور التاميل طوال الحرب الأهلية السريلانكية.

بينما الحركة رائدة فى استخدام الأحزمة والسترات المتفجرة، ويُنسب اليها مجموعه مـن العمليات المؤثرة، على رأسها: اغتيال حاكم منطقه جافنا عَامٌ 1975 على يد مؤسس الحركة، واغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي فى مدينة مدراس عَامٌ 1992، واغتيال الرئيس السريلانكي راناسينغ بريماداسا عَامٌ 1993، بالإضافة الي الهجوم على مطار كولومبو عَامٌ 2001، واغتيال وزير الخارجية السريلانكي كادريجامار عَامٌ 2005.

نتيجه لهذا النشاط عالي المستوى، تُصنِّف أكثر مـن 30 دَوْلَةٌ حركة نمور التأميل ضوء الحركات الإرهابية، ومنها دول الاتحاد الأوروبي والهند، والولايات المتحدة التى أدرجت الحركة فى قائمتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية عَامٌ 2001.

وبحلول مايو/أيار 2009، قُتل زعيم الحركة برابهاكاران، واعترفت الحركة بهزيمتها امام الحكومة السريلانكية وقررت وضع سلاحها، مُنهية بذلك حربا ضوء الأطول فى القارة الآسيوية، لكن بعدما حصدت مكاسب سياسية طويلة وحظيت لفترة طويلة باعتراف الحكومة، وكان الفضل الاول فى ذلك يعود للعمليات “الانتحارية” التى جذبت بها المجموعة انتباه العالم وأجبرته على الاستماع لمطالبها.

 

فلسطين.. صفحة جديدة قديمة فى العمل المقاوم

لم تكن عملية يافا الاخيره استثناء فى تاريخ مقاومة الجمهور الفلسطيني للاحتلال، إذ عادة ما تستخدم حركات التحرر الوطني العمليات “الفدائية” أيضا لأجل إلحاق أكبر الخسائر فى صفـوف الخصم، ماديا ومعنويا ونفسيا.

وقد دشنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هذا النوع مـن العمليات بشكل نظامي للمرة الأولى رداً على مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف يـوم 25 فبراير/شباط 1994 والتي نفذها عضو حركة كاخ المتطرفة، المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين، الذى أطلق النار على المصلين الفلسطينيين اثناء صلاة الفجر دَاخِلٌ الحرم الإبراهيمي فى الخليل جنوبي الضفة الغربية، مما أسفر عَنْ 29 شهيدا وأكثر مـن 125 جريحا.

كرد فعل على هذه المجزرة، قامت حركة حماس بأولى عملياتها “الفدائية”، أو “الاستشهادية”، فى تل أبيب يـوم 19 أكتوبر/تشرين الاول 1994 مـن اثناء تفجير حافلة فى شارع ديزنغوف، مما أسفر عَنْ مقتل أكثر مـن 20 شخصا وإصابة 104 آخرين.

وقد نفذ العملية الشهيد صالح عبد الرحيم الصوي، الذى سبق ان قُتل شقيقه فى غارة إسرائيلية. وخلال عَامٌ واحد بعدها، نُفِذَت 14 عملية “استشهادية” فى إسرائيل، تسببت فى مقتل 86 شخصا، هدفت حماس مـن خلالها الي إظهار نوع مـن الرد المؤلم على المجازر الإسرائيلية، وتسجيل تمسكها بالعمل المسلح فى مواجهه “اتفاقيات السلام” التى رأت الحركة أنها تتجاهل مطالب الفلسطينيين وتقوض مقاومتهم.

بحلول نهاية تسعينيات القرن الماضي، وسّعت الحركة نطاق عملها “الفدائي” احتجاجًا على اتفاق أوسلو المُوقع بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

وقتها، أصبحت العمليات الفدائية السلاح الرئيسي لكل الفصائل الفلسطينية الرئيسية والفاعلة على الساحة، سواء كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أو كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وكذلك سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وكتائب أبو علي مصطفى، الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

هذه العمليات حظيت بدعم كثير مـن عموم الفلسطينيين الذين شعروا بالحرمان مـن حقوقهم، والإحباط مـن الاحتلال الإسرائيلي واتساعه، بما أعطى مـن مشروعية شعبية لهذه العمليات، وهو ما أثبتته الاستطلاعات المتنوعة ومنها استطلاع المركـز الفلسطيني للبحوث الدراسية والمسحية الذى أعلن ان 69% مـن الفلسطينيين كانوا يؤيدون هذه الهجمات فى عَامٌ 2006.

ولّدت هذه المشروعية الشعبية تنافسا بين الحركات على تنفيذ العمليات “الفدائية/الاستشهادية” التى تصاعدت بداية الألفية تزامنا مع زيادة الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين، واحتلال ومصادرة الأراضي الفلسطينية، والقتل والتهجير وفشل عملية السلام، وأخيرا مع تدنيس رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون ومرافقيه للمسجد الأقصى، الامر الذى أطلق شرارة الانتفاضة الثانية.

نتيجه لذلك، اثناء الفتره بين عامي 2000 و2005، ارتفعت وتيرة العمليات “الفدائية/الاستشهادية” مـن جميع الفصائل، ليبلغ عددها 135 عملية، كان نصيب حركة حماس وحدها منها 54 عملية بنسبة 40% تقريبا.

خلفت هذه العمليات مئات القتلى والمصابين الإسرائيليين، فضلا عَنْ الأضرار المادية والنفسية، إلا أنه مع خفوت الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتحديدا بعد عَامٌ 2006، توقفت تقريبا الفصائل عَنْ استخدام هذه العمليات لاعتبارات سياسية.

لكن مع تبدل المشهد السياسي والأمني بعد طوفان الأقصى، عادت العمليات “الفدائية/الاستشهادية” خيارا على الطاولة مجددا، مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية امام قطاع غزة طيلة عَامٌ كامل تقريبا، والضغط المتزايد فى الضفة الغربية والقدس المحتلة.

بدأ الامر فى 18 أغسطس/آب الماضي بعملية تفجير شاحنة فى تل أبيب بعبوة ناسفة تبنتها حركة حماس وكتائب شهداء الأقصى فى بيـان مشترك، ومثلت إيذانا بعودة هذا النوع مـن العمليات.

تبع ذلك مقطع مصور بثته كتائب القسام فى وقت لاحق مـن شهرسبتمبر/أيلول الفائت، ظهر خلاله منفذ عملية تل أبيب، الشهيد جعفر منى، فى طريقه الي تنفيذ العملية، وتضمّن مشاهد مـن عمليات “استشهادية” سابقة نفذتها المقاومة الفلسطينية فى العمق الإسرائيلي، مثل عملية القدس عَامٌ 2001، وعملية تل أبيب عَامٌ 1994، وعمليتي صفد وعمانوئيل الثانية اللتين وقعتا عَامٌ 2002، مع صور منفذي هذه العمليات.

هذه التطورات تطرح تساؤلا عما إذا كانـت المقاومة قررت إعادة العمليات “الاستشهادية” تكتيكا رئيسيا الي ساحة المواجهة اثناء الفتره القادمة.

ومع التطورات الحالية على مختلف الجبهات، لن يكون ذلك أمرا مستبعدا تماما، إذ يتمتع “الاستشهاديون” بمرونة فى الحركة وقدرة على التخفي لا يحظى بها المقاومون النظاميون، كَمَا يُعد تصنيع ونقل المتفجرات اللازمة للعمليات الاستشهادية أسهل بكثير مـن الأسلحة التقليدية، ويعتمد بشكل كثير على مواد “ذات استخدام مزدوج”.

والأهم ان “الاستشهاديين” يصعب تتبعهم أو حتـى معرفتهم، قبل الوقت الذى يُقرون فيه شن عملياتهم (غالبا لا يمتلك معظمهم سجلات أمنية لدى دَوْلَةٌ الاحتلال)، وهو ما يوفر ميزة المفاجأة والقدرة على اختيار الأهداف التى تُسبب ضررا أوسع.

الأهم مـن ذلك ربما، ان الجرائم الإسرائيلية والتواطؤ الدولى والصمت الإقليمي على مدار أكثر مـن عَامٌ كامل منذ اندلاع الحرب على غزة، أججت براكين الغضب فى قلوب الفلسطينيين، وخلقت طوابير مـن “الاستشهاديين” المُحتملين، حتـى مـن غير المنتمين الي فصائل المقاومة، وهذا ما دفع شخصيات أمنية إسرائيلية للتحذير مـن مغبة التصعيد فى مناطق الضفة.

ومع السهولة النسبية لتنفيذها (رغم حجم التضحية الهائل الذى تتطلبه)، فإنها تضرب أهدافا ربما تكون أكثر تأثيرا مـن تلك التى تضربها الصواريخ والمُسيرات، وتهز ركيزتين أساسيتين لدولة الاحتلال، هما القدرة على توفير الأمن لمواطنيها، والقدرة على الحفاظ على استقرار اقتصادها.

أبعد مـن ذلك، يمكننا ان نزعم -ولن نكون مخطئين تماما- ان عودة العمليات “الفدائية” والسيارات “التفجيرية” مـن شأنها ان تلقي بظلالها على الحرب الطويلة الدائرة فى قطاع غزة فى نهاية المطاف، مع استهداف العمق الإسرائيلي وخاصة تل أبيب، لأن ذلك يعني تقويض المدينة الأكثر أمانا للسكان الإسرائيليين، بمن فيهم الفارون مـن غلاف غزة والمناطق الشمالية المعرضة لصواريخ حزب الله اللبناني.

وإذا ما أغرقت الفصائل الفلسطينية تل أبيب بالعمليات الفدائية، فإنها ستخلق ضغوطا سياسة أكبر على الحكومة الإسرائيلية والجيش المشتت بالفعل على جبهات الشمال والجنوب والضفة الغربية.

الأخطر مـن ذلك، ان يتبنى تلك العمليات أشخاص خارج جغرافية فلسطين، وخاصة دول الطوق كَمَا تطلق عليها إسرائيل، وبالتحديد فى مصر والأردن، حيـث نفذ العديد مـن الأفراد عمليات فدائية بخلفيات غير مؤدلجة، مما يستقبل المجال امام صعود عددها فى المستقبل، واتساع تأثيرها، خاصة مع الحفاوة الشعبية التى يُستقبل بها الفدائي/الاستشهادي وأهله عند الشعوب، وعلى منصات التواصل الاجتماعي.

كيف تعمل العمليات الفدائية؟

يؤكد هذا الاستعراض التاريخي والسياسي المكانة التى باتت تحتلها “العمليات الفدائية/الاستشهادية” كإستراتيجية اثبت نجاعتها العسكرية، وأنها ليست مجرد شكل مـن أشكال التعبير عَنْ اليأس، أو تكتيكا مـن تكتيكات “الإرهاب” كَمَا تصمها الماكينات الإعلامية الغربية عادة.

لقد نجحت هذه العمليات فى إحداث “اختلالات تكتيكية” فى صفـوف الجيوش الكبيرة، بل وفي تقويض إستراتيجيتها العسكرية أحيانا، وأعجزتها عَنْ مجابهتها فى غير ما مناسبة، كَمَا أحدثت اختراقات سياسية بدت مستبعدة ظاهريا لصالح مجموعـات طالما عانت مـن التهميش أو القمع والاضطهاد.

ويُعد العنصر الرئيسي فى نجاعة هذه العمليات هو خسارة القدرة على التنبؤ بها، وهو ما يستنزف المزيد مـن الموارد فى مطاردة احتمالات غير متناهية، ويُنهك القوات وسْط المزيد مـن الإجراءات الاحترازية التى تبطئ حركات الجيوش الكبيرة.

كَمَا يمكن للأعمال “الفدائية” ان تعطل العمليات اللوجستية الأكبر حجمًا، مـن اثناء استهداف البنية الأساسية الرئيسية أو خطوط الإمداد أو مراكز القيادة، مما يشل مجموعه العمليات، ويجبر القادة العسكريين على تحويل الموارد وتوجيهها امام هذه التهديدات، بدلاً مـن متابعة أهدافهم.

الي جانب ذلك، تضع العمليات “الفدائية” ضغوطا على الرَّأْي العام وعلى السياسيين وقادة الجيوش، خاصة إذا أسفرت عَنْ خسائر بشرية كبيرة، وهو ما يخلق بيئة سياسية يمكن فيها للجماعات الصغيرة الحصول على مكتسبات سياسية أوسع مما تمنحه لها قدراتها العسكرية.

لذلك، تُصنف العمليات “الفدائية/ الانتحارية/ الاستشهادية” اليـوم ضوء أشكال الحرب غير المتكافئة، حيـث تَستَغِل المجموعات الأضعف تكتيكاتها امام خصوم أقوى.

ويمكن لهذه الإستراتيجية ان تعمل على تسوية ساحة الصراع وتحوّله الي حرب “استنزاف”، مما يسمح للطرف الأضعف بإلحاق أضرار جسيمة بخصمه دون الحاجة الي قدرات عسكرية تقليدية.

والأخطر ان العمليات الناجحة تمثل أداة دعائية قوية، تدفع المزيد مـن أفراد المجتمع للانضمام الي الجماعات التى تنفذ تلك العمليات، خاصة جاء الى المجتمعات التى تشعر بالتهميش أو القمع جاء الى القوى الأكبر المدعومة بآلات عسكرية كبيرة وصكوك بيضاء لممارسة الإبادة، بلا حساب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى