مع بدء الحرب القائمة على قطاع غزة، قامت دَوْلَةٌ الاحتلال الإسرائيلي بقطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود عَنْ القطاع كنوع مـن العقاب الجماعي، خطأ بذلك الأعراف الدولية وقوانين حقوق الإنسان التى أقرَّتها الأمم المتحدة بينما يتعلق بحق الجميع بالوصول الي مياه صالحة للشرب.
ومع اليـوم التاسع للحرب، اطلقت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تحذيرا للمجتمع الدولى بقرب نفاد مياه الشرب فى قطاع غزة، مما يهدد بكارثة صحية وبيئية تطول أكثر مـن مليونَيْ ساكن فى القطاع يرزحون تحت وطأة الحصار والحرب، لا ملجأ لهم سوى مياه الآبار الملوثة التى لا تزيد الوضع إلا سوءا لاحتوائها على العديد مـن مسببات الأمراض.
ويبرزُ هنا السؤال الأهم: كيف يتحكم الاحتلال الإسرائيلي بمصادر المياه فى قطاع غزة؟ ولماذا لا يملك الغزّيون السيطرة على مياه الشرب الخاصة بهم؟ ولكن قبل الإجابة عَنْ السؤال المطروح أعلاه، نوضح أولا أنواع مصادر المياه المتوفرة فى قطاع غزة.
مصادر المياه فى قطاع غزة
هناك 4 مصادر للمياه فى قطاع غزة. أولها هو المياه السطحية، ويُعد هذا المورد محدودا جدا ولا يُستفاد منه إطلاقا. فوادي غزة هو المسطح المائي الوحيد فى القطاع، وينبع الوادي مـن جبال النقب والمرتفعات الجنوبية لمدينة الخليل فى الضفة الغربية، ويبلغ طوله 105 كم، 9 كيلومترات منه فقط هى التى تمتد دَاخِلٌ غزة.
منذ أوائل السبعينيات، عندما بدأت إسرائيل فى بناء السدود وتنفيذ خطط تحويل القنوات المغذية للجزء العلوي مـن الوادي لمناطق أخرى، انخفضت كمية المياه التى تصل الي وادي غزة بشكل كثير الي ان توقفت تماما بحلول عَامٌ 2000، حيـث كان متوسط التدفق السنوي للوادي نحو 20 مليون متر مكعب.
المصدر الثانى هى المياه الجوفية، وهي المزود الرئيسي لمياه الشرب فى فلسطين. ويقع قطاع غزة فوق جزء مـن حوض المياه الجوفية الساحلي الممتد على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط مـن حيفا شمالا الي رفح جنوبا، حيـث تعمل أمطار الشتاء على تجديد خزانات الآبار الجوفية بحد لا يتجاوز 60 مليون متر مكعب سنويا.
يعمل الغزيون على استخراج المياه مـن الآبار الجوفية مـن اثناء مضخات تعمل بالكهرباء أو بالوقود. ونتيجة لشح مصادر المياه وسهولة استخراج المياه الجوفية التى تقع على عمق 19 مترا فقط تحت سطح الأرض، يلجأ الغزيون للاعتماد على المياه الجوفية بشكل مضاعف، حيـث قاموا فى عَامٌ 2019 وحده باستخراج 187.6 مليون متر مكعب، وهو ما يُشكِّل ثلاثة أضعاف ما تستطيع مياه الأمطار تجديده، الامر الذى يُشكِّل خطرا بنضوب هذا المورد إذا ما استمر الاستخراج بهذه الوتيرة.
وقد صرحت سلطة المياه الفلسطينية ان 97% مـن المياه المستخرجة مـن حوض المياه الساحلي فى قطاع غزة لا تطابق معايير جودة المياه الصالحة للشرب التى أقرتها منظمة الصحة العالميه، نتيجه التلوث الشديد الذى تعاني منه مياه الحوض الساحلي بسـبب تسرب المياه العادمة اليها مـن الحفر الامتصاصية.
وتعمل 16.5% مـن المنازل فى قطاع غزة بتصريف مياهها العادمة مـن اثناء الحفر الامتصاصية، اما ما يتم تصريفه مـن اثناء شبكات الصرف الصحى الي محطات معالجة المياه العادمة فإنه يقابل خطر التصريف الي البحر نتيجه توقف عمل هذه المحطات نتيجه استهداف إسرائيل لها أو لعدم إمدادها بالطاقة. فى المحصلة، فإن 4% فقط مـن منازل القطاع تمتلك الوصول الي مجموعه مياه نظيفة مطابقة للمعايير والمواصفات.
المورد المائي الثالث للغزيين يأتي عَنْ طريق تحلية مياه البحر. ويقع قطاع غزة على البحر الأبيض المتوسط مما يُشكِّل فرصة لتحلية مياه البحر، ويعمل فى قطاع غزة أكثر مـن 150 محطة تحلية ذات قدرات صغيرة، منها نحو 125 يديرها القطاع الخاص. على المدى البعيد تعمل سلطة المياه الفلسطينية والمانحون الدوليون على إنشاء محطة لتحلية المياه تبلغ قدرتها التشغيلية نحو 100 مليون متر مكعب سنويا، مـن شأنها تخفيف المعاناة على الغزيين وتحقيق اكتفاء ذاتي بينما يتعلق بمياه الشرب. بيد ان هذا المشروع يقابل تحديات عديدة، أهمها كمية الطاقة الكبيرة التى تحتاج اليها المحطة لتعمل، وهو ما يفتقده القطاع طوال الستة عشر عاما الماضية. وثاني هذه التحديات تردد المانحين بالاستثمار فى مشاريع كبيرة كهذه المحطة التى تبلغ قيمة إنشائها نحو 620 مليون يورو، نتيجه استهداف إسرائيل لهذه البنى التحتية بشكل مباشر ومتعمد فى الحروب على قطاع غزة.
اما المورد المائي الأخير، فهو شركة المياه الإسرائيلية (ميكروت). وتعمل ميكروت بتزويد القطاع بـ 8.0-7.5 ملايين متر مكعب مـن المياه سنويا، وتعمل بلديات القطاع بمزجها مع المياه الجوفية المالحة المستخرجة فى خزانات لتخفيف ملوحتها قبل تزويد المواطنين بها، يخضع هذا المصدر لسيطرة إسرائيل بشكل كامل وتستخدمه أداةً للضغط على القطاع.
السيطرة على المياه
ولنجب الان عَنْ السؤال الأهم: كيف تُحكـم إسرائيل سيطرتها على مصادر المياه فى غزة؟
تدرك دَوْلَةٌ الاحتلال بناء على المعطيات أعلاه ان المياه الجوفية التى يستطيع الفلسطينيون فى غزة الوصول اليها قليلة جدا وملوثة جدا فى الوقت نفسه، فبالإضافة الي ملوحتها، تحتوي على كميات كبيرة مـن النترات والبورون السامين، حيـث إن 83% مـن العينات التى فُحِصت فى مجموعه توزيع المياه فى غزة غير مطابقة لمواصفات منظمة الصحة العالميه والمواصفات الفلسطينية الخاصة بالنترات فى المياه، كَمَا ان 25% مـن العينات التى فُحِصت فى المياه الجوفية غير مطابقة لمعايير منظمة الصحة العالميه والمواصفات الفلسطينية الخاصة بالقولونيات البرازية. وتبعا لاتفاقية أوسلو فإن هناك حدًّا أقصى لا يُسمح لمضخات سحـب المياه بتجاوزه، بل لا يُسمح بإدخال المعدات المخصصة لذلك بالدخول الي القطاع، وبالتالي الوصول الي المياه الأكثر عمقا والأقل تلوثا.
تبلغ كمية المياه الصالحة للشرب التى يستهلكها المواطن الغزي 22.4 لترا يوميا لكل فرد، وهي أقل مـن ربع الحد الأدنى الذى تنصح به منظمة الصحة العالميه ويبلغ 100 لتر يوميا لكل فرد واللازم لتلبية الاحتياجات الصحية الأساسية. بينما تبلغ الكمية التى يستهلكها الإسرائيلي 211 لترا يوميا لكل فرد، الامر الذى يُظهِر الفرق الكبير بين ما توفره إسرائيل لمواطنيها وبين ما يتوفر لأصحاب الأرض مـن الفلسطينيين.
تستهدف إسرائيل مع كل تصعيد البنى التحتية الخاصة بالمياه مـن شبكات توزيع المياه والصرف الصحى، ففي حرب عَامٌ 2021 استهدفت 18 مضخة لمياه الصرف الصحى، 6 منها تدمرت بالكامل، مما أدى الي تسرب المياه العادمة الي شاطئ البحر الأبيض المتوسط. أيضا تدمر 18,734 مترا مـن مجموعه الصرف الصحى، الامر الذى تسبب بتوقف محطات تنقية المياه العادمة عَنْ العمل الي اثناء ترميم الشَّبَكَةُ. قطع إمدادات الوقود والكهرباء يعني ببساطة عدم القدرة على تشغيل مضخات مياه الشرب ومضخات تصريف المياه العادمة ومحطات تنقية المياه العادمة. تبعات هذا الامر تجاوزت تدمير البنى التحتية وتوقفها عَنْ العمل، ليصل الي عزوف المانحين عَنْ الاستثمار فى مشاريع البنى التحتية فى قطاع غزة نتيجه استهداف إسرائيل لها مع كل اندلاع للحرب، وتهدف دَوْلَةٌ الاحتلال مـن ذلك الي استخدام الامر أداةً سياسية لإخضاع سكان غزة، وفرض الهدوء على القطاع مقابل عدم استهداف البنية التحتية.
اتفاقية أوسلو التى لم تصل الي مرحلة الحل النهائى كَمَا هو مخطط لها، كان مـن أهدافها ان تصل بالسلطة الفلسطينية الي مرحلة الاعتماد على نفسها بينما يتعلق بإدارة قطاع المياه، الامر الذى لم يتحقق أبدا، لأن إسرائيل هى التى تسيطر على مصادر المياه، بل وتبيع المياه الي دول أخرى مجاورة، وهي تريد ان تُبقي على صنبور المياه وسيلةً مجانية للابتزاز السياسي وانتزاع المواقف، فهي تقتطع فاتورة المياه مـن أموال الضرائب التى تجنيها بالنيابة عَنْ السلطة الفلسطينية بشكل شهري مباشر ودون العودة للسلطة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته تغلق الصنبور وتفتحه بناء على احداث الوضع القائم كَمَا يحدث الان فى قطاع غزة.
مع بداية حرب روسيا على أوكرانيا، قطعت روسيا إمدادات الغاز والطاقة واستهدفت البنى التحتية الخاصة بهذه الإمدادات، الامر الذى وصفته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير ليين بأنه عمل إرهابي يرقى لمستوى جريمة حرب كونه يخالف قوانين حقوق الإنسان، بينما صرحت فى بداية الحرب على غزة أنها بجانب إسرائيل بينما تفعله مـن إجراءات فى سبيل “دفاعها عَنْ النفس”.
مـن هنا استمدت إسرائيل شرعيتها لما تفعل، فلأول مرة فى التَّارِيخُ الحديث تستخدم المياه بهذا المستوى وسيلةً للقتل والابتزاز، فتدفع الغزيين لاستخدام المياه الملوثة، وتمنع إدخال معدات مـن شأنها زيادة وصولهم الي المياه الأقل تلوثا. مع بداية الحرب قطعت إسرائيل إمدادات الوقود والكهرباء، وهي السبيل الوحيدة لاستخراج مياه صالحة للاستخدام نسبيا، دون ذلك سيموت الناس مـن العطس والجفاف الشديد والأمراض المعدية، إذا لم يموتوا بالطائرات والقنابل.
_________________________________________
هوامش:
- يعمل الكاتب حاليًا فى هولندا مدير مشروع فى شركة لتحليل البيانات الجغرافية. وهو مرشح لنيل درجة الدكتوراه فى ادارة بيانات المياه مـن جامعة توينتي فى هولندا، وحاصل على ماجستير فى ادارة البيئة والطاقة مـن الجامعة ذاتها. عمل الكاتب لأكثر مـن خمس اعوام مستشارا للشركات الناشئة فى مجال المياه والزراعة الذكية فى فلسطين، وأجرى عمليات بحث الماجستير الخاص به حول حوكمة إعادة استخدام مياه الصرف الصحى المعالجة فى فلسطين، حيـث اكتسب المعرفة والخبرة حول ضوء المياه فى فلسطين.