غزة – “وين نروح.. الرب واحد والعمر واحد”، لم تتردد آمنة مروان وهي تقول تلك الكلمات لتبرير تمسكها بمنزلها فى مخيم جباليا شمال قطاع غزة، ورفضها وأسرتها النزوح، تحت ضغط ما وصفته بإرهاب وتهديد الاحتلال الإسرائيلي لسكان شمال القطاع بالإخلاء والتوجه الي نصفه الجنوبي.
وفي ما كانـت الخشية على حياتهم دافعا لآلاف سكان مدينة غزة، ومدن بيت لاهيا وبيت حانون ومخيم جباليا وغيرها مـن مناطق شمال القطاع، للنزوح نحو الجنوب، فإن آخرين لا يمكن حصرهم بدقة، كان قرارهم التشبث بمنازلهم، صمودا أو لعدم وجود مكان محدد ولائق يلجؤون إليه.
تقول آمنة (46 عاما) للجزيرة نت “ليس لنا أقارب أو معارف وأصدقاء فى جنوب القطاع، ولا أقبل لنفسي ولأسرتي حياة الذل فى مراكز الإيواء، حيـث لا خصوصية للنساء، ولا تتوفر فيها أبسط مقومات الحياة، وفوق كل ذلك لاحقت الصواريخ النازحين دَاخِلٌ هذه المراكز”.
وتشير آمنة بحديثها الي تكرار استهداف النازحين جاء الى الاحتلال بعمليات قصف جوي ومدفعي، نالت منهم على مداخل المستشفيات، وفي مراكز إيواء دَاخِلٌ مدارس تتبع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أو فى محيطها، وتسببت فى سقوط شهداء وجرحى.
الموت بكرامة
بالنسبة لآمنة وأسرتها، فإن “الموت بكرامة فى منزلهم افضل ألف مرة مـن الموت فى مراكز الإيواء، أو على الطرقات”، اثناء محاولة النزوح، كيفما حدث اثناء الساعات الماضية مع نازحين على شارع الرشيد الساحلي، وقد مزقتهم نيران الاحتلال الي أشلاء متناثرة.
وفي اثناء تغلق دبابات وآليات إسرائيلية وسـط شارع صلاح الدين المؤدي الي مدينة غزة مـن الناحية الجنوبية، فإنها تسيطر بقوة النيران على شارع الرشيد، وهما الشارعان الرئيسيان اللذان يربطان شمال القطاع بجنوبه، والحركة عليهما مجازفة محفوفة بخطر الموت.
وشهد مخيم جباليا، حيـث تقطن آمنة وأسرتها، مجازر مروعة هى الأعنف والأشد دموية، حيـث دمرت غارات جوية إسرائيلية، فى ليلة واحده قبل بضعة أيام، مربعات سكنية بأكملها، تضم عشرات المنازل التى دمرت فوق رؤوس ساكنيها، وأسفرت -وفق أرقام رسمية لوزارة الصحة- عَنْ أكثر مـن ألف شهيد وجريح.
وتدحض مجازر مخيم جباليا، وغيرها مـن جرائم القتل فى مدينة غزة وشمالها، مزاعم وزير الامور الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر -الثلاثاء الماضي- بأن “عَدَّدَ الضحايا المدنيين فى غزة بدأ فى الانخفاض بعد مغادرة 90% مـن المدنيين شمال القطاع”.
ولا تخفي آمنة حالة الخوف الشديدة التى تتملكها وأفراد أسرتها فى البناية نفسها، وتضم 50 فردا جلهم مـن الأطفال والنساء. وعن أكثر اللحظات رعبا، تقول إن تدمير منزل عمة زوجها المجاور لهم، جراء غارة جوية لم ينج منها سوى العمة وزوجها، واستشهد 21 آخرين، “شعرت مع هذه الغارة ان الموت يحوم فوق رؤوسنا”.
وتعاني هذه الأسرة الكبيرة، كَمَا العديد مـن الأسر والعائلات التى تمسكت بالبقاء فى منازلها فى شمال القطاع، فى توفير ضروريات الحياة اليومية مـن الطعام والمياه، بينما تتحول المنازل ليلا الي ما يشبه القبور المظلمة جراء الانقطاع التام للكهرباء منذ اندلاع الحرب، وتوقف محطة توليد الكهرباء الوحيدة لنفاد الوقود.
وتقول آمنة “نعيش واقعا مأساويا مـن دون كهرباء، كَمَا نفد غاز الطهي، ولا يتوفر لدينا يوميا سوى القليل مـن الطعام والمياه، نأكل وجبة طعام واحده يوميا لا تحتاج لطهي بالغاز، ونحصل على كمية قليلة مـن المياه مـن بئر خاصة يمتلكها أحد الجيران”.
هروب مـن الموت وإليه
مع اشتداد حدة الغارات الجوية، والجرائم المتلاحقة التى ارتفعت وتيرتها مع إعلان إسرائيل عَنْ دخول حربها على غزة المرحله الثانية والعمليات البرية، تقطعت السبل بـ”أم مريم” وأسرتها، وهم مـن حملة الجنسية البلجيكية، التى ظلت لآخر لحظة ترفض إخلاء منزلها فى حي النصر بمدينة غزة.
وتقول “أم مريم” للجزيرة نت -والخوف جعلها تتمسك برفض ذكر اسمها كاملا- “أشعر ان روحي تخرج مني ببطء، لم أعد قادرة على تحمل المزيد مـن مشاهد القتل والتدمير، الموت يقترب مني ومن أسرتي وأطفالي، وقررنا المغادرة، ولكن كيف؟، لا نعلم، وقد فصل الاحتلال الشمال عَنْ الجنوب”.
ولا تستطيع أم مريم وأمثالها مـن مزدوجي الجنسية الوصول حاليا وبأمان مـن مدينة غزة وشمالها الي جنوب القطاع، حيـث معبر رفح البري مع مصر، المنفذ الوحيد لهم على العالم الخارجي.
وتمكن مئات مـن الأجانب ومزدوجي الجنسية مـن مغادرة غزة عبر معبر رفح، بموجب اتفاق ثلاثي بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، وهؤلاء هم ممن نزحوا مبكرا مـن منازلهم.
مزاعم وأكاذيب
فى هذا السياق، يشكك رئيس “المكتب الاعلامي الحكومي” فى غزة سلامة معروف، فى الأرقام الصادرة عَنْ دَوْلَةٌ الاحتلال بشأن أعداد النازحين مـن منازلهم فى شمال القطاع نحو جنوبه، ويقول إن “الأرقام متغيرة لحظة بلحظة، وفي اثناء ينزح بعضهم نحو مدن الجنوب هربا مـن جرائم الاحتلال، فإن هناك مـن يجازف للعودة”.
ويضيف للجزيرة نت، ان جرائم الاحتلال فى مدينة غزة وشمالها تسفر عَنْ ارتقاء المئات مـن الشهداء والجرحى، ممن تستهدفهم الغارات الجوية دَاخِلٌ منازلهم، وكذلك فى الشوارع وعلى مداخل المستشفيات وفي محيطها، وداخل مراكز الإيواء.
وبحسب معروف، فإن 110 مركز إيواء فى مدينة غزة ومناطق شمال القطاع تضم أكثر مـن 400 ألف نازح، فضلا عَنْ نحو 60 ألف نازح فى مستشفى الشفاء، وأكثر مـن 12 ألف نازح فى مستشفى القدس التابعة فى حي تل الهوى جنوب غربي مدينة غزة، وآلاف النازحين فى المستشفى الأندونيسي فى شمال القطاع.
كَمَا ان المنازل التى تدمر على رؤوس ساكنيها فى أحياء مدينة غزة، ومخيمات اللاجئين فى المدينة ومناطق شمال القطاع، تدلل على كذب مزاعم الاحتلال، بل تؤكد ان هدفه هو ارتكاب المجازر ورفع فاتورة الدم والدمار، لإرهاب الناس وإجبارهم ودفعهم لإخلاء منازلهم والنزوح جنوبا، وفقا لتأكيد معروف.
فى الوقت نفسه، يصف معروف الاحتلال بالغباء لتزامن إرهابه لسكان الشمال، مع استهدفه بالقصف الجوي والمدفعي لشارع الرشيد، الوحيد الذى يمكن للراغبين بالنزوح سلوكه للوصول الي جنوب القطاع، الامر الذى أوقع شهداء وجرحى.