الاخبار العربية والعالمية

ما بعده ليس كَمَا قبله.. كيف غيَّر “طوفان الأقصى” نمط الصراع مع إسرائيل الي الأبد؟ سام نيوز اخبار

فى فجر السابع مـن أكتوبر/تشرين الاول الحالي، نفَّذت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هجوما بريا وجويا فى عمق المستوطنات الإسرائيلية، وهو هجـوم “رأس الحربة” مُعقَّد على المستوى العملياتي والهندسي والاستخباراتي يُعَدُّ الاول مـن نوعه منذ قيام دَوْلَةٌ الاحتلال الإسرائيلي عَامٌ 1948. ورغم ما يقوم به جيش الاحتلال مـن غارات يومية تشبه عملية الإبادة الجماعية تحت سمع وبصر العالم والدول الغربية التى لم تتوانَ عَنْ دعـم الكيان المحتل، يقوم المسؤولون الغربيون فى مقدمتهم الرئيس الأميركي جوزيف بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن بترديد أقوال ليس لها اى أساس مـن الصحة عَنْ قيام حماس بذبح الأطفال، وغيرها مـن الاتهامات.

 

وكما ان عقارب الساعة لا يمكنها أبدا الرجوع الي الوراء، فإن ما وجَّهته عملية “طوفان الأقصى” مـن صفعة للجيش الإسرائيلي وتدمير لهيبته لا يمكن محوه. فعلى مدار عقود لم تُفض عمليات التسوية الدولية ومقررات الأمم المتحدة الي حل الصراع، ولم يحصد الفلسطينيين مقابل ذلك سوى الحصار والقتل الممنهج والصمت الدولى، بينما كانـت المقاومة محصورة فى خانة رد الفعل فى مواجهه الانتهاكات الإسرائيلية التى لم ترقَ فى معظم الأحيان (بسـبب ضعف الإمكانات) الي مستوى ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي. كان كل ذلك، حتـى جاءت عملية طوفان الأقصى التى مثَّلت تطورا استثنائيا فى قوة الفعل المقاوِم، وأثبتت قدرة المقاومة على إلحاق أذى بالغ وعميق وإستراتيجي بدولة الاحتلال. وبذلك، كسرت العملية نمط الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الي الأبد، اما القادم فهو غير معروف، لكنه بالتأكيد لا يشبه السنوات الماضية، التى قامت فيها إسرائيل بقصف وقتل الأبرياء دون ثمن يكافئ إجرامها.

 

غزة.. مـن النكبة الي أوسلو

توجَّه نحو ربع مليون فلسطيني ممن طُردوا من بيوتهم أثناء حرب عام 1948 إلى غزة.
توجَّه نحو ربع مليون فلسطيني ممن طُردوا مـن بيوتهم اثناء حرب عَامٌ 1948 الي غزة. (الصُّورَةُ: مواقع التواصل)

بدأت الحكاية منذ ان أقرَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر/تشرين الثانى 1947 قرارا بتقسيم فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني الي دَوْلَةٌ يهودية تضم 56% مـن فلسطين التاريخية ودولة عربية تضم المساحة المتبقية وتبلغ 44% (1). وحين اندلعت الحرب عَامٌ 1948 بين الجيوش العربية والعصابات الصهيونية وانتهت بهزيمة عربية، استلمت دَوْلَةٌ الاحتلال البنية والعتاد والمواقع التى تركتها بريطانيا وراءها، ثم وسَّعت العصابات الصهيونية حدود دولتها الوليدة الي 80% مـن أرض فلسطين، وتبقت مناطق لم تجتحها تلك العصابات هى الضفة الغربية وقطاع غزة الخاضع للإدارة المصرية حينئذ (2).

 

إثر ذلك، توجَّه نحو ربع مليون فلسطيني ممن طُردوا مـن بيوتهم اثناء حرب عَامٌ 1948 الي غزة، وفاق عددهم بكثير عَدَّدَ سكان غزة الأصليين الذى جاء الي آنذاك 80 ألف نسمة فقط، وبات هؤلاء وذريتهم يشكّلون اليـوم أكثر مـن 70% مـن سكان القطاع. ويُعَدُّ أكثر مـن نصف سكان غزة لاجئين تقل أعمارهم عَنْ 18 سنة، وهي تحتل “المرتبة الثانية” على مستوى العالم مـن حيـث أعلى نسبه سكان دون عمر 14 سنة، بينما ان الكثافة السكانية فيها ضوء الأعلى فى العالم (3).

 

بعد توقف المعارك عَامٌ 1949، فرضت مصر سيطرة مُحكَمة على أنشطة الفدائيين فى غزة، لكن فى بداية عَامٌ 1955، بدأت الغارات الإسرائيلية على القطاع، إذ شنَّ الجيش الإسرائيلي غارة دموية عبر الحدود ذهب ضحيتها 40 جنديا مصريا. وفي أكتوبر/تشرين الاول 1956، اجتاحت إسرائيل بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا شبه جزيرة سيناء المصرية واحتلت غزة. وقد وصف المؤرخ الإسرائيلي “بيني موريس” الاحداث التالية قائلا: “لقد علِق العديد مـن الفدائيين وما يُقدر بـ4000 جندي نظامي مـن المصريين والفلسطينيين فى القطاع، وقد حدد الجيش الصهيوني وجهاز الأمن العام هويتهم واعتقلهم، ولقي العديد منهم حتفهم فى مذبحتين ارتكبهما الجيش الصهيوني” (4).

الجنود الإسرائيليون يستجوبون الفلسطينيين في غزة أثناء حرب 1967
احتلال قطاع غزة اثناء حرب 1967. (الصُّورَةُ: مواقع التواصل)

بحلول عَامٌ 1957 انسحب الجيش الإسرائيلي مـن غزة مخلِّفا وراءه أكثر مـن 1000 شهيد، لكن إسرائيل أعادت احتلال القطاع اثناء حرب 1967. وعندما أظهر الغزاويون مقاومة عنيدة للاحتلال، جاء شارون على رأس القيادة الجنوبية لجيش الاحتلال بهدف “سحق المقاومة فى غزة”، وتشير باحثة أميركية متخصصة فى تاريخ غزة كيف قام شارون “بوضع مخيمات اللاجئين تحت عمليات حظر تجول تستمر 24 ساعة، يُفتِّش خلالها الجنود البيوت ويجمعون الرجال فى ساحة عامة لاستجوابهم، وقد أُجبِر العديد مـن الرجال على الوقوف فى مياه البحر المتوسط حتـى خصورهم لعدة ساعات اثناء عمليات التفتيش”. إضافة الي ذلك، أُبعِد ما يقارب 12 ألفا مـن أفراد عائلات المشتبه بانخراطهم فى القتال الي مخيمات احتجاز فى سيناء، وخلال بضعة أسابيع، بدأت الصحافة الإسرائيلية نفسها توجه انتقادات للجنود على قيامهم بضرب الناس وإطلاق الرصاص على الحشود وتحطيم المقتنيات فى البيوت وفرض قيود شديدة القسوة اثناء حظر التجول (5).

 

فى يوليو/تموز 1971، اضاف شارون طريقة “تقليص” مخيمات اللاجئين بهدف زيادة التضييق على أهل غزة، وبحلول نهاية شهر أغسطس/آب كان جيش الاحتلال قد اجتث أكثر مـن 13 ألفا مـن سكانها. وفتح الجيش باستخدام الجرافات طرقا واسعة عبر المخيمات وعبر الحقول لتيسير عمل الوحدات العسكرية الآلية وتمكين قوات المشاة مـن السيطرة على المخيمات، وأدت إجراءات القمع التى نفذها الاحتلال الي تحجيم المقاومة.

 

فى بداية التسعينيات، كانـت إسرائيل على وشك النجاح فى قمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى التى انطلقت عَامٌ 1987، وفي تلك الفتره دخلت دَوْلَةٌ الاحتلال فى مفاوضات سرية مع منظمة التحرير الفلسطينية فى العاصمة النرويجية أوسلو، ثم جرت المصادقة على تلك المفاوضات فى شكل اتفاق فى سبتمبر/أيلول 1992، حيـث اعترفت منظمة التحرير بـ”دَوْلَةٌ إسرائيل” مقابل السلطة على الضفة الغربية وغزة. وسَعَت إسرائيل مـن اثناء اتفاق أوسلو الي تيسير فرض الاحتلال عَنْ طريق سحـب جنودها مـن الاتصال المباشر مع الفلسطينيين على ان ينزل مكانهم “وكلاء فلسطينيون”. وقد علَّق وزير الخارجية الإسرائيلي السابق “شلومو بن عامي” على الامر بقوله: “يتمثل أحد معاني أوسلو فى ان منظمة التحرير الفلسطينية باتت كيانا متعاونا مع إسرائيل فى عملية خنق الانتفاضة وإجهاض كفاح أصيل لتحقيق الاستقلال الفلسطيني” (6).

 

17 عاما مـن الحصار

لكن الامور لم تستمر كَمَا خُطط لها، ففي عَامٌ 2006، وبعد ان سئم الفلسطينيون مـن مسار المفاوضات التى رأوها عبثية التى، صوتوا لصالح حركة حماس فى الانتخابات التشريعية التى فازت فيها بأغلبية. وقد اعلنت عضو مجلس الشيوخ الأميركي حينها “هيلاري كلينتون” عَنْ سخطها مـن ان الولايات المتحدة لم “تزوِّر” نتيجه الانتخابات، وقالت إنه “كان يجب علينا ان نتأكد مـن القيام بأمر ما لتحديد الجهة التى ستفوز” (7).

بعد فـوز حماس بالانتخابات شدَّدت إسرائيل حصارها فورا على القطاع، “وتوقفت الأنشطة الاقتصاديه فى غزة”، وحَذَت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حذو إسرائيل، إذ فرضا اجراءات مالية وُصفت بال “مدمرة” على غزة. وقد كان الدافع وراء هذه الحرب الاقتصاديه القاسية التى استهدفت “حكومة منتخبة انتخابا حرا لشعب تحت الاحتلال” هو ضمان فشل حماس وضعضعة مكانتها بوصفها هيئة حاكمة. وطالبت واشنطن وبروكسل فى آنٍ واحد الحركة الإسلامية ان تنبذ العنف (الذى يعني مقاومة الاحتلال)، وأن تعترف بإسرائيل وبالاتفاقات السابقة المبرمة بين الطرفين، رغم أنها شروط أحادية الجانب؛ إذ لم تُجبر إسرائيل بدورها على نبذ العنف الذى تمارسه بحق الفلسطينيين، كَمَا لم يُطلب منها اعتراف مناظر بحقوق الفلسطينيين مـن اجل إقامة دَوْلَةٌ ضوء حدود 1967، فضلا عَنْ إيقاف توسُّعها فى بناء المستوطنات (8).

⁠فى عَامٌ 2007، عزَّزت حماس سيطرتها على غزة بعد ان أحبطت محاولة انقلابية تبين ان واشنطن شاركت فى تدبيرها بالتواطؤ مع إسرائيل وعناصر مـن فتح، وفق ما كشفته فانيدتي فير وصحف أميركية أخرى، بينما اطلقت عليه حماس بعد ذلك بـ”الحسم العسكري” (9)، وكان رد إسرائيل والولايات المتحدة تشديد الحصار. ولكن حماس فى ذلك الوقت أرادت ان تمنح مَن انتخبوها مُتنفَّسا، فدخلت فى اتفاق مع إسرائيل لوقف الاعلان النار فى يونيو/حزيران 2008 بوساطة مصرية. وأبدت حماس استعدادها لقبول حل “الدولتين” وقيام دَوْلَةٌ فلسطينية مستقلة على حدود 1967، بل وقبلت -مرحليا- بالدخول فى اى مفاوضات لإتمام “عملية السلام” (10). لكن فى نوفمبر/تشرين الثانى 2008، انتهكت إسرائيل الاتفاق، ونفَّذت غارة حدودية فتاكة على غزة أعادت الي الأذهان الاعتداءات الحدودية التى شنتها عَامٌ 1955، وكان الهدف استثارة عملية انتقامية توفِّر ذريعة لشن هجـوم “رأس الحربة” إسرائيلي واسع.

Palestinians look at the body of a Hamas gunman who was killed by Israeli troops in southern Gaza October 4, 2008. Israeli troops killed a Hamas gunman and wounded two others on Tuesday in the first armed clash in Gaza since a ceasefire was declared in the territory in June, Palestinian medics said. REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa (GAZA)
قتلت قوات الأمن الإسرائيلية 455 فلسطينيا، مـن بينهم 175 مدنيا على الأقل عَامٌ 2008. (الصُّورَةُ: رويترز)

بالفعل، تبيَّن ان الغارة كانـت فاتحة لاجتياح دموي. ففي 27 سبتمبر/أيلول 2008، اطلقت إسرائيل عملية “الرصاص المصبوب”، وبدأت العملية بحملة جوية تبعها هجـوم “رأس الحربة” جوي وبري. وشنَّ سلاح الجو الإسرائيلي الذى يستخدم أحدث الطائرات المقاتلة فى العالم نحو ثلاثة آلاف طلعة جوية فوق غزة وأسقط عليها ألف طن مـن المتفجرات، بينما نشر جيش الاحتلال عدة ألوية عسكرية مجهزة بأنظمة متطورة لجمع البيانات، وبنادق روبوتية يُتحَكَّم بها عَنْ بُعد مُزوَّدة ببث تلفزيوني. وعلى الجهة الاخرى، اطلقت حماس مئات الصواريخ “البدائية” وقذائف الهاون نحو إسرائيل. وفي 18 يناير/كانون الثانى 2009، أعلنت إسرائيل وقف الاعلان النار مـن جانب واحد، حيـث كان موعد تنصيب باراك أوباما رئيسا حينئذ بعد يومين (10).

 

غير ان الحصار على غزة استمر، ومنحت ادارة الرئيس بوش والكونغرس الأميركي إسرائيل دعما تاما اثناء الهجوم. وأقر الكونغرس الأميركي بالإجماع قرارا يضع اللوم على حماس بشأن ما حدث مـن قتلٍ ودمار (11). وفي عَامٌ 2009، أصدرت بعثه لتقصي الحقائق مكلفة مـن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على رأسها القاضي الجنوب أفريقي المعروف “ريتشارد غولدستون”، تقريرا كبيرا وثَّق ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم امام الإنسانية.

 

بالمثل، وثّق تقرير منظمة “بتسليم” (مركز البيانات الإسرائيلي لحقوق الإنسان فى الأراضي المحتلة) السنوي لعام 2008 ان قوات الأمن الإسرائيلية قتلت 455 فلسطينيا، مـن بينهم 175 مدنيا على الأقل عَامٌ 2008، بينما قتل الفلسطينيون 31 إسرائيليا. ومن ثمَّ بلغت نسبه القتلى مـن الفلسطينيين الي قتلى الإسرائيليين عشية ما يسمى “حرب الدفـاع عَنْ النفس” الإسرائيلية نحو 1:15. وقد شجبت إسرائيل احتجاز حماس لمقاتل إسرائيلي واحد أَسَرته عَامٌ 2006، فى الوقت الذى احتجزت فيه دَوْلَةٌ الاحتلال قرابة 8000 “سجين سياسي” فلسطيني، بمَن فيهم 60 امرأة و390 طفلا، و548 شخصا احتُجزوا بموجب الاعتقال الإداري مـن دون توجيه اتهامات ضدهم ولا محاكمتهم (42 منهم احتجزوا لمدة تزيد على سنتين).

Palestinians protest Israel's ongoing siege of Gaza- - GAZA CITY, GAZA - FEBRUARY 05: Palestinians hold banners reading, “Save Gaza” and “Lift the unjust blockade” as they stage a demonstration to protest Israel’s ongoing siege of the coastal enclave, which is about to enter its 13th year in Port of Gaza City, Gaza on February 05, 2019.
أطفال غزة يرفعون لافتات لرفع الحصار عَنْ غزة. (الصُّورَةُ: الأناضول)

فى ديسمبر/كانون الاول 2008، أفاد تقرير صادر عَنْ مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الامور الإنسانية (AHCO) بأن الحصار الإسرائيلي “المُمتَد منذ 18 شهرا خلق أزمة هائلة للكرامة البشرية، إذ أدَّى الي تراجع كثير فى سبل العيش وتدهور كثير فى البنى التحتية والخدمات الأساسية”. فقد كان الغزاويون يفتقرون الي الكهرباء لمدة تصل الي 16 ساعة يوميا، ويحصلون على المياه مرة واحده فى الاسبوع ولبضع ساعات فقط، كَمَا ان 80% مـن المياه كانـت غير صالحة للاستهلاك البشري، وكان واحد مـن كل اثنين عاطلا عَنْ العمل ويفتقر الي الأمن الغذائي، بينما 20% مـن الأدوية الأساسية فى غزة قد تراجعت الي مستوى الصفر، بينما عانى أكثر مـن 20% مـن المرضى بسـبب السرطان وأمراض القلب وأمراض مستعصية أخرى، دون قدرة على استصدار تصاريح للحصول على علاج طبي فى الخارج.

 

تعلَّق الغزاويون إذن بالحياة عبر خيط رفيع، وكل ذلك بسـبب الحصار الإسرائيلي. وقد استنتج تقرير مكتب تنسيق الامور الإنسانية ان سكان غزة “يشعرون على نحو متزايد بأنهم عالقون فى مصيدة، ماديا وفكريا وعاطفيا”. وفي ضوء ذلك التَّارِيخُ شديد الاختصار عَنْ كفاح غزة ومعاناة شعبها يمكننا الان ان نطرح السؤال: هل حماس هى مَن بدأت الحرب؟

 

الاختيار الصعب.. الموت بالحرب أو الموت بالحصار

عند لحظة ما، لم تُبدِ حماس اعتراضا على ما أجمع عليه المجتمع الدولى بخصوص “تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي” استنادا الي حل الدولتين مع انسحاب إسرائيل الي حدود ما قبل 1967، بحيث يتضمَّن ذلك حلا عادلا لمسألة اللاجئين سواء بالعودة أو التعويض. غير ان مَن شذَّ عَنْ هذا الإجماع الواسع لم يكُن سوى إسرائيل والولايات المتحدة، فقد صوَّتت الدولتان بالرفض دوما فى التصويت السنوي الذى تُجريه الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار “تسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية”، الذى يتضمن اسس لتحقيق حل الدولتين، منها تأكيد عدم جواز اكتساب الأراضي عَنْ طريق الحرب، والتشديد على عدم مشروعية المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضي المحتلة منذ عَامٌ 1967 بما فى ذلك القدس الشرقية، وضرورة انسحاب إسرائيل الي حدود عَامٌ 1967 وإعمال حقوق الجمهور الفلسطيني، وأهمها الحق فى تقرير المصير وإقامة دَوْلَةٌ مستقلة، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقا لقرار الجمعية رقم 194.

تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار
(الجزيرة)

فى عَامٌ 2002، بدأت إسرائيل فى إنشاء جدار دَاخِلٌ مناطق الضفة الغربية اتخذ مسارا مُتعرِّجا أدمج الكتل الاستيطانية الكبيرة بينما يشبه دَوْلَةٌ فصل عنصري. وقد طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة مـن محكمة العدل الدولية ان توضح “الآثار القانونية الناشئة عَنْ تشييد الجدار الذى تقوم إسرائيل بإقامته”، لتُصدر المحكمة قرارها الاستشاري بعدم قانونية الجدار عَامٌ 2004. ثم أعادت محكمة العدل الدولية التشديد على العناصر الأساسية للإطار القضائي لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وحدَّدتها فى “قواعد ومبادئ القانون الدولى ذات الصلة”، وأبرزها أنه “لن يُعترف مـن الناحية القانونية بأي اكتساب للأراضي ناشئ مـن التهديد باستعمال القوة”، وأن “سياسة وممارسات إسرائيل المتمثلة فى إقامة مستوطنات فى الأراضي الفلسطينية لا تستند الي اى أساس قانوني”.

 

⁠تبلور إجماع دولي واسع أيضا لإعمال “حق العودة” للفلسطينيين، حيـث نصَّ القرار 194 على “وجوب السماح بالعودة، فى أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين فى العودة الي ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عَنْ الممتلكات للذين يقررون عدم العودة الي ديارهم”. إضافة الي ذلك، صرحت منظمة “هيومان رايتس ووتش” بأنها “تحث إسرائيل على ان تقر بحق العودة لأولئك الفلسطينيين، ونسلهم، الذين فروا مـن مناطق تقع الان دَاخِلٌ (دَوْلَةٌ إسرائيل)، والذين احتفظوا بروابط مناسبة مع هذه المناطق”، كَمَا دعت منظمة العفو الدولية الي “تمكين الفلسطينيين الذين فروا مـن إسرائيل أو الضفة الغربية أو قطاع غزة أو طُردوا منها، وكذلك الأشخاص المنحدرون منها الذين حافظوا على روابط حقيقية مع المنطقة؛ مـن ان يمارسوا حقهم فى العودة”.

 

على عكس ما يظنه كثير مـن العرب وغيرهم حول السقف المرتفع لحماس ومثاليتها الزائدة، كان موقف الحركة مـن تلك القضايا مرنا للغاية. فقبل بضعة اشهر فقط مـن عملية الرصاص المصبوب، صرَّح “خالد مشعل”، رئيس المكتب السياسي لحماس، اثناء مقابلة جرت معه بأن “معظم القوى الفلسطينية، بما فيها حماس، تقبل بدولة على حدود عَامٌ 1967” (12). وحتى بعد الدمار الذى خلّفه الاجتياح، أعاد مشعل التأكيد ان “الهدف الحالي يظل إقامة دَوْلَةٌ فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وعودة إسرائيل الي حدود 67، وحق العودة للاجئين” (13). وفي صيغة تكميلية، أخبر مشعل الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر عَامٌ 2006 ان “حماس وافقت على قبول اى اتفاقية سلام يتم التفاوض عليها بين قادة منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل، بشرط ان يوافق عليها الفلسطينيون لاحقا عبر استفتاء عَامٌ أو مـن اثناء حكومة منتخبة ديمقراطيا”، كَمَا أعلن كارتر بنفسه لاحقا (14).

Hamas leader Khaled Meshaal (C) speaks during a news conference with the other Palestinian factions in Damascus December 16, 2006. Flanking Khaled is, Ramadan Shallah (R), head of the militant Palestinan Islamic Jihad group and Farouk Kaddoumi, head of the political department of the Palestinian Liberation Organization (PLO). REUTERS/Khaled al-Hariri (SYRIA)
“خالد مشعل” رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. (الصُّورَةُ: رويترز)

بعد اتفاق وقف الاعلان النار الذى عقدته حماس مع إسرائيل عَامٌ 2008، التزمت حماس بوقف اى هجـوم “رأس الحربة” أو الاعلان اى صواريخ، وحثت جميع الفصائل على احترام الاتفاقية، حتـى جاءت عملية “الرصاص المصبوب”، التى علَّقت عليها منظمة العفو الدولية فى تقريرها السنوي بالقول: “فى يونيو/حزيران، تم التوصل الي وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وجماعات فلسطينية مسلحة فى غزة، وظل قائما لمدة أربعة اشهر ونصف الشهر، لكنه انهار بعدما قتلت القوات الإسرائيلية ستة مسلحين فلسطينيين فى هجمات جوية وهجمات أخرى يـوم 4 نوفمبر/تشرين الثانى” (15).

 

ومع ذلك، ظلت حماس “مهتمة بتجديد الهدوء النسبي مع إسرائيل”، وفقا لتعبير رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “يوفال ديسكين”، كَمَا كانـت مستعدة للقبول بصفقة “لإيقاف الاعلان النار مقابل تخفيف السياسات الإسرائيلية التى خنقت اقتصاد القطاع”، وفقا لقائد الجيش الإسرائيلي السابق فى غزة “شموئيل زكاي”. ولكن إسرائيل شددت حصارها الخانق، كَمَا طالبت حماس بوقف الاعلان نار فوري وغير مشروط وأحادي الجانب. وحتى قبل ان تشدد دَوْلَةٌ الاحتلال حصارها، شجبت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان “ماري روبنسون” تأثير الحصار قائلة: “لقد تم تدمير جميع مظاهر المدنية [في غزة]، وأنا لا أبالغ فى ذلك” (15).

 

بالمثل، أكدت “سارا روي”، المتخصصة بالاقتصاد السياسي فى جامعة هارفارد، “ان الطعام والدواء، والوقود، وقطع الغيار لأنظمة المياه والصرف الصحى، والأسمدة، والأغطية البلاستيكية، والهواتف، والورق، والصمغ، والأحذية، وحتى أكواب الشاي، لم تعُد تدخل بكميات كافية أو لا تدخل إطلاقا. وها هو مجتمع بأكمله ينهار امام أعيننا، ولا يوجد سوى استجابة دولية ضئيلة بينما عدا تحذيرات الأمم المتحدة التى تُتجاهل” (14).

Bulldozers remove the debris from Al-Jawharah Tower building that was hit by Israeli air strikes during the Israeli-Palestinian conflict in May last year, in Gaza City, January 10, 2022. Picture taken January 10, 2022. REUTERS/Suhaib Salem
معاناة يعيشها أهالي القطاع مع تكرر القصف وانقطاع الخدمات. (الصُّورَةُ: رويترز)

فى حال لم ترد حماس بأي مقاومة على هذا الوضع، فإن إسرائيل كانـت لتزيد مـن أعمالها الاستفزازية، وهذا ما حدث بالفعل فى الفتره بين عامي 2008-2021، حيـث تكررت الحرب على غزة وقصفها، وتسوية أحيائها بالأرض وخنقها بالحصار، فلم يتبقَّ امام “حماس” وأهل غزة عموما إلا الموت جوعا أو الموت بالمقاومة. وحتى صفقات تبادل الأسرى التى أجرتها حماس لم تُحدِث تغييرا كبيرا، حيـث أعادت إسرائيل اعتقال عَدَّدَ كثير مـن الأسرى المُحرَّرين. والمحصلة مـن كل ذلك هى ان المجتمع الدولى عاجز عَنْ تغيير الواقع الذى تقوم فيه إسرائيل برمي كل قوانين وتقارير المجتمع الدولى وراء ظهرها، والمُضي قدما فى قتل وسحق الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم أو أسرهم حتـى الموت، مع عدم التزامها بأي اتفاقية لوقف الاعلان النار، مهما قدَّمت الفصائل الفلسطينية مـن تنازلات.

 

لذا، مثَّلت عملية “طوفان الأقصى” خروجا عَنْ هذه الدائرة المُفرغة مـن المفاوضات والاتفاقات والتسويات التى استمرت لما يزيد على نصف قرن بلا فائدة، لتؤسس واقعا جديدا لم تعُد فيه إسرائيل الدولة صاحبة القوة الحاسمة والردع الكامل، ولم يعد جيشها “لا يقهر”. اما عمَّا هو آت فستكشف عنه الأيام والسنوات القادمة، لكن ما نعلمه يقينا ان إسرائيل والمنطقة كلها بعد تلك العملية لن تكون كَمَا قبلها.

———————————————————————————————————

المصادر والمراجع

  1. غزة: عمليات بحث فى استشهادها. نورمان جفنكلستين. ترجمة أيمن حداد.
  2. دَوْلَةٌ الإرهاب. كيف قامت إسرائيل الحديثة على الإرهاب. تأليف: توماس سواريز. ترجمة: محمد عصفور
  3. غزة: عمليات بحث فى استشهادها.
  4. Benny Morris, Israel’s Border Wars, 1949–1956 (Oxford: Clarendon Press, 1993), pp. 407–409.
  5. Jean-Pierre Filiu, Gaza: A History (New York; London: Hurst, 2014), p. 105
  6. Shlomo Ben-Ami, Scars of War, Wounds of Peace: The Israeli-Arab Tragedy (New York: Oxford University Press, 2006), pp. 191 and 211
  7. Ken Kurson, «2006 Audio Emerges of Hillary Clinton Proposing Rigging Palestine Election,» Observer (28 October 2016).
  8. غزة: عمليات بحث فى استشهادها.
  9. US plotted to overthrow Hamas after election victory
  10. غزة: عمليات بحث فى استشهادها.
  11. Stephen Zunes, «Virtually the Entire Dem-Controlled Congress Supports Israel’s War Crimes in Gaza,» Alternet (13 January 2009)
  12. Mouin Rabbani, «A Hamas Perspective on the Movement’s Evolving Role: An Interview with Khalid Mishal, Part II,» Journal of Palestine Studies, vol. 37, no. 4 (Summer 2008)
  13. غزة: عمليات بحث فى استشهادها.
  14. 14.Jimmy Carter, We Can Have Peace in the Holy Land: A Plan That Will Work (New York: Simon and Schuster, 2009), pp. 137 and 177.
  15. غزة: عمليات بحث فى استشهادها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى