برلين- حملة واسعة يشنها جزء كثير مـن الإعلام وحتى بعض السياسيين فى ألمانيا امام زيارة مقررة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الي برلين هذا الشهر، بسـبب تضامنه مع الفلسطينيين فى غزة، واتهامه لإسرائيل بـ”ارتكاب جرائم امام الإنسانية” فى حربها على القطاع، وبـ “التصرف كتنظيم وليس كدولة” مما جعل إسرائيل تعلن إعادة تقييم علاقاتها مع تركيا.
وفي كل مرة يصرح فيها عَنْ زيارة لأردوغان الي ألمانيا، أو كلما تستقبل أنقرة مسؤولاً ألمانياً، أو يقابل مسؤولون مـن البلدين، تتصاعد الانتقادات امام سياسات الرئيس التركي، لكن هذه المرة كان الصوت عالياً، بحكم وقوف الحكومة الألمانية على النقيض تماماً مـن الموقف التركي فى الحرب على غزة، وتضامنها الكبير مع إسرائيل.
ووصل التضامن الألماني الحكومي مع تل أبيب درجة رفض وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك وقف الاعلان النار بغزة لأسباب إنسانية، اثناء اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي فى لوكسمبورغ قبل أيام، بحجة “ضرورة استمرار الحرب امام الإرهاب” كَمَا زار إسرائيل اثناء الحرب كل مـن بيربوك والمستشار الألماني أولاف شولتز ووزير الدفـاع بوريس بيستوريوس.
النظرة الألمانية لأردوغان
يقول يونس أولوسوي الخبير بمركز الدراسات التركية وأبحاث الاندماج (ZfTI) فى جامعة دويسبورغ – إيسن للجزيرة نت “أحداث غزة قمه جبل الجليد، وهي تعزز صورة سلبية عَنْ أردوغان فى ألمانيا، فالأمر لا يتعلق بالدرجة الأولى بالصراع فى الشرق الأوسط، بل بسياساته وموقعه دَاخِلٌ السلطة فى تركيا”.
ويوضح الباحث الألماني التركي أنه يُنظر لأردوغان فى ألمانيا كشخص “يقمع المعارضة ويعادي الديمقراطية” لافتاً الي ان “دوائر المعارضة التركية تنشط بشكل كثير بين الجمهور الألماني” رغم ان أردوغان اُنتخب ديمقراطياً فى بلاده.
وصرّح بيجان غير ساراي الأمين العام للحزب الديمقراطي الحر، وهو حزب عضو بالحكومة الألمانية “خطاب الكراهية المستمر الذى يلقيه أردوغان امام إسرائيل، وتضامنه مع منظمة حماس الإرهابية أمر لا يطاق” وقال المتحدث، وهو مـن أصول إيرانية، أنه “يجب ان يكون لهذا الامر عواقب، وأنه يجب التساؤل ما إذا كان ينبغي لنا ان نرحب بأردوغان فى ألمانيا لهذه الأسباب”.
حملة حزبية وإعلامية
ركز الإعلام الألماني كثيراً على وصف أردوغان حماس بأنها “حركة تحرر وطني” ووصف الحكومات الغربية بأنها “داعمة للجرائم امام الإنسانية فى غزة” حيـث تصنف ألمانيا حماس فى قوائم الإرهاب، وشددت إجراءاتها ضدها مؤخرا، حيـث هددت بترحيل كل مـن يتعاطف معها مـن المهاجرين.
كَمَا جاءت الانتقادات مـن يوهانس وينكل رئيس شباب حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (حزب المستشارة السابقة أنجيلا ميركل) الذى صرّح لصحيفة “بيلد” الشعبوية بأن “أردوغان كان ولا يزال إسلامياً، وهو يحرّض امام إسرائيل منذ مدة، وفي ألمانيا” وأضاف “إذا كانـت ألمانيا لا تزال تتمتع ببعض احترام الذات، فهذا هو الوقت المناسب لإلغاء زيارة أردوغان”.
وبدوره اعلن ماركوس زودر رئيس الاتحاد الاجتماعي المسيحي، وهو حزب حليف لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي “أمر خطير ان يدلي رئيس دَوْلَةٌ عضو فى الناتو بتلك التصريحات” وتحدث لصحيفة “ميركور” أنه “لا يجب الصمت عَنْ تصريحاته” داعياً المستشار الألماني الي اتخاذ موقف بخصوص زيارة أردوغان المرتقبة.
واتخذت عدة صحف الموقف نفسه مـن أردوغان، حيـث نشر موقع صحيفة “فيلت” آراء كتاب وشخصيات يرفضون زيارة أردوغان، ويتهمونه بدعم الإرهاب، ومن ذلك مقال للصحفي التركي المعارض دنيز يوسيل الذى طالب شولتز بإلغاء الاستقبال.
كَمَا كتبت صحيفة “تاغز شبيغل” ان أردوغان “يهدد السلام الداخلي فى ألمانيا” وأنه “سيضاعف تحديات ألمانيا فى التعامل مع مجتمعات الهجرة مـن اثناء خطاباته التحريضية” فى إشارة للدعـم الكبير للقضية الفلسطينية بين أوساط المهاجرين العرب والمسلمين فى ألمانيا.
ترسبات سياسية وأيديولوجية
لا يُخفي الساسة الألمان اختلافهم مع السياسة الخارجية التركية فى ملفات كثيرة، ورغم ان التوتر الألماني التركي خفّ فى عهد شولتز، خصوصاً مع اتباع أنقرة منذ مدة نهجاً جديداً لـ”تصفير المشكلات” ومن ذلك تخفيف لهجتها تجاه الغرب والاضطلاع بدور أكبر فى الوساطة دَاخِلٌ حرب أوكرانيا، إلّا ان ذلك لم يمنع مـن استمرار ملفات الخلاف.
وتعاتب أنقرة برلين على انحيازها لليونان وقبرص اليونانية فى خلافهما مع تركيا، وكذلك على دعمها للمعارضة التركية خصوصاً الجالية الكبيرة بألمانيا، بينما تنتقد برلين أنقرة فى موضوع سجن صحفيين ومعارضين أتراك.
كَمَا تتهم تركيا ألمانيا بـ”التستر على نشاط حزب العمال الكردستاني” الذى تصنفه برلين منظمة إرهابية، فضلاً عَنْ ما تراه تركيا “فيتو ألماني” يمنع نقاشاً جدياً حول انضمامها لمجلس أوروبا، وسبق ان اتخذت ألمانيا مواقف متشددة تجاه دخول تركيا الاتحاد الأوروبي.
ويعلق الباحث يونس أولوسوي “لا يستطيع الغرب، فى عهد أردوغان، التنبؤ بسياسات تركيا” ويقول إن “تركيا عضو فى الناتو لكنها تحتفظ بعلاقات قوية مع روسيا، وكذلك تعمل مع إيران، فضلاً عَنْ وقوفها الي جانب أذربيجان، بينما يقف الأوروبيون الي جانب أرمينيا فى نزاع قره باغ” ويبرز ان تركيا ترصد نفسها بشكل مختلف، وتبين أنها لا تعتمد على الغرب.
علاقة متشابكة
يحضر عَدَّدَ كثير مـن الأتراك فى المظاهرات المناصرة للفلسطينيين بألمانيا، بحكم ان الأتراك هم أكبر جالية أجنبية فى البلاد، مما يجعل المؤسسات الإسلامية التركية هى الأكبر، لكن جلّ الهيئات التركية بألمانيا حاولت البقاء على خط متوازن فى الحرب على غزة، ومن ذلك موقف اتحاد الديمقراطيين الدوليين “يو آي دي” (UID) وهو تجمع لمنظمات مدنية تركية، مقره مدينة كولونيا الألمانية، وينظر له على أنه لوبي داعم لحزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا.
وصرّح الاتحاد بـ “ضرورة وقف الاعلان النار بغزة فى اسرع وقت، وإعطاء فرصة للسلام، والتوقف فوراً عَنْ قتل النساء والأطفال والرضع، وكذلك الاعلان جميع الرهائن” كَمَا عبرت هيئات إسلامية تركية عَنْ موقف مماثل.
ورغم نشاط المعارضة التركية بألمانيا، وفتح المجال امام وجوه منها بالإعلام، فإن أردوغان يتمتع بشعبية كبيرة بين أتراك ألمانيا، إذ حصل على قرابة ثلثي أصوات الناخبين بالانتخابات الرئاسية الاخيره، وفي اثناء ان برلين لا تعبر رسمياً عَنْ رفض استمرار أردوغان رئيساً لتركيا، فهناك إرهاصات عديدة لرغبة الغرب عموماً فى تغيير القيادة التركية.
ويشير الباحث أولوسوي الي ان تغيير نظرة الألمان لأردوغان أمر صعب، لكن فى الوقت نفسه، تبقى علاقات ألمانيا وتركيا قوية للغاية وخصوصاً التجارية، بحكم ان ألمانيا شريكها التجاري الاول، وكذلك بحكم “القرابة” التى تجمعهما، ويجسدها حوالى 3 ملايين مـن الجالية التركية فى ألمانيا، ويقول “ليس مـن الضروري ان يحب الأقارب بعضهم البعض، لكن لا يمكنهم تطبيق طلاق نهائى”.