هكذا تبدو مائدة الغزيين الرمضانية فى شمال قطاع غزة | سياسة سام نيوز اخبار
غزة- “هل نحن فى رمضان أم هى أيام المجاعة ذاتها التى نواجهها منذ شهور؟”، كثيرا ما أوجه هذا السؤال الي نفسي ويوجهه لي الجيران والمعارف، يقول الصحفى عبد الهادي عوكل المقيم فى شمال قطاع غزة.
عوكل يسكن مع زوجته وأطفاله السبعة حاليا فى مخيم جباليا، وقد انتقل إليه قبل أيام قليلة مـن شهر رمضان المبارك بعد تدمير شقته السكنية فى بناية بمنطقة تل الزعتر القريبة مـن المخيم فى شمال القطاع.
يقول عبد الهادي للجزيرة نت إن الناس فى الشمال نالت منهم المعاناة وبلغ الجوع مبلغه، وحل عليهم شهر رمضان وهم صيام منذ شهرين وأكثر، ويعيشون عزلة حادة وقد قطع عنهم الاحتلال الإمدادات الإنسانية، وباتت سبل الحياة أمامهم محدودة للغاية حتـى أكل المزيد منهم أعلاف الحيوانات وورق الشجر.
باستثناء فضل هذا الشهر عَنْ غيره مـن شهور العام بثواب صيامه وأجر الصلاة والأعمال الصالحة ليس هناك فرق كثير بينه وبين شهور الحصار الخانق الذى تفرضه إسرائيل على شمال القطاع منذ فصله عَنْ جنوبه إثر اندلاع الحرب فى 7 أكتوبر/تشرين الاول الماضي.
مائدة رمضان
تمضي أيام رمضان ولم نشعر بها فى شمال القطاع كَمَا يجب، وقد غابت صلاة التراويح عَنْ المساجد التى حولت أغلبيتها غارات إسرائيلية الي أكوام مـن الركام، وحرمنا مـن المائدة الرمضانية التى تبدع فى إعدادها النساء فى غزة، مـن حيـث أصناف الطعام والشراب التى تدخل البهجة على أفراد أسرهن، خاصة الصغار حديثي العهد بالصيام.
فى اليـوم الاول مـن رمضان لم تنبعث رائحة الملوخية المميزة والشهية مـن منازل مدينة غزة وشمالها، فلا توجد ملوخية وخضار فى النصف الشمالي مـن القطاع، وقد دمرت صواريخ الاحتلال وقنابله الأراضي الزراعية.
ربما يتوارد الي ذهن الكثيرين سؤال: ما هو شكل المائدة الرمضانية فى شمال غزة؟ وإليكم الإجابة بما تناولته وزوجتي وأطفالي، أكبرهم كريم (13 عاما) وأصغرهم الرضيعة سارة (عَامٌ ونصف).
اليـوم الاول: صلصة بندورة (معجون الطماطم) تخلط بما يتوفر مـن بهارات كي نتقبل طعمها، وإلى جانبها القليل مـن الفلفل وبضعة أرغفة مـن الخبز، وقد كنت محظوظا بشراء رطل طحين (3 كيلوغرامات مـن الدقيق الأبيض) بسعر 150 شيكلا، علما بأن الكيس زنة 25 كيلوغراما كان سعره لا يتعدى 40 شيكلا قبل الحرب (الدولار يعادل 3.9 شواكل).
اليـوم الثانى: توفر لدينا كيلو مـن الأرز، وقد كان طعامنا الوحيد على مائدة الإفطار.
اليـوم الثالث: كان هذا اليـوم الأقرب الي المائدة الرمضانية المعتادة مـن حيـث تنوع الطعام والشراب، فقد تمكنت مـن شراء 9 وجبات مـن المساعدات التى ألقتها طائرات أميركية، وتحصل عليها غالبا فئة مـن التجار الجدد، ويتراوح ثمن الوجبة الواحدة (أشبه بوجبة عسكرية للجنود) بين 25 و35 شيكلا.
اليـوم الرابع: جاءتنا جارتنا بنصف كيلو مـن العدس أعدته زوجتي كوجبة طبيخ، وهي غير معتادة لدينا فى البيت، فهذه النوعية مـن العدس تعدها الأسر فى غزة اثناء رمضان وفي أيام فصل الشتاء كشوربة الي جانب وجبة الطعام الرئيسية.
اليـوم الخامس: حصـلت على نصف كيلو مـن الأرز المصرى بسعر 40 شيكلا، بينما كان لا يتعدى 4 شواكل قبل الحرب، وأعدته زوجتي وإلى جانبه صحن مـن صلصة البندورة كي يتمكن الأطفال مـن ابتلاعه وهضمه.
عملية يومية
“ماذا سنأكل اليـوم؟”، ربما هذا السؤال الأكثر ترددا على ألسنة الأطفال فى شمال القطاع، وأطفالي يتساءلون “متى تنتهي الحرب ونرجع نأكل مثل زمان؟”.
يدرك أطفالي ان ما نحن فيه هو بسـبب الحرب وعدم توفر الطعام، وهو ما يساعدني فى حثهم على الصبر وتقبل اى شيء يوضع على المائدة.
ينقضي النهار لدى كثير مـن سكان شمال القطاع وهم لا يعلمون ماذا سيأكلون، وأقول لأبنائي “لنحمد الله، فهناك غيرنا مـن يعاني للحصول على شربة ماء”.
وتبقى الرضيعة سارة أصغر أطفال عبد الهادي “الهم الأكبر” بالنسبة له، فقد نفدت كمية الحليب التى اختزنها لها مع اندلاع الحرب، واضطر الي شراء كيس حليب انتهت صلاحيته فى الاول مـن مارس/آذار الحالي بسعر 70 شيكلا، بينما كانـت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) توزعه مجانا.
جوع ودمار
يقيم عبد الهادي مع أسرته حاليا فى منزل بمخيم جباليا يعود الي ذوي زوجته النازحين الي جنوب القطاع، وقد لجأ إليه بعد دمار شقته السكنية فى بناية بمنطقة تل الزعتر القريبة مـن المخيم جراء غارات جوية إسرائيلية.
فى 6 مارس/آذار الحالي ومع ساعات العصر كان عبد الهادي يعتلي سطح البناية المؤلفة مـن 5 طوابق، للحصول على الإنترنت ومتابعة عمله الصحفى، وعندما سمع صراخا مـن الجيران ومطالبة السكان بسرعة المغادرة نزل مسرعا ووجد أحد جيرانه يحدّث ضابطا إسرائيليا اتصل به، فالتقط عبد الهادي الهاتف وخاطب الضابط: مـن أنت؟ وما هى البناية المستهدفة؟ فتأكد مـن هوية المتصل وجدية الإنذار بالقصف.
مرت ساعة ونصف قبل ان يهوي صاروخ على البناية ويتبعه آخر فتحولت الي ركام، وخسر عبد الهادي شقته -التى يقطنها منذ 8 أعوام- بكل محتوياتها، لكن شنطة صغيرة تحتوي على الوثائق والأوراق الهامة اعتاد الغزيون ان تكون جاهزة وبمتناول اليد مع كل حرب إسرائيلية.
نجا عبد الهادي وأسرته مـن الموت عندما كانوا نازحين فى منزله شقيقه، وقد انهارت عليهم جدران منزل مجاور جراء غارة عليه أودت بحياة والد مراسل الجزيرة فى شمال القطاع أنس الشريف، ويقول “بسـبب مخاطر الموت قصفا وجوعا فكرت كثيرا بالنزوح جنوبا، وصليت وزوجتي الاستخارة، وقدّر الله لنا البقاء هنا، والقطاع كله بشماله وجنوبه ليس فيه مكان آمن”.
واقع مشابه
وفي مدينة غزة يعيش مـن تبقوا مـن سكانها واقعا مشابها لنظرائهم فى الشمال مـن حيـث تردي الْأَوْضَاعُ المعيشية، وقد طالتهم “قرصات الجوع” حتـى قبل حلول شهر الصيام.
وكل يـوم تتملك الحيرة فريال عبدو وأسرتها المكونة مـن 10 أفراد تفكيرا فى وجبتي السحور والإفطار، وتقول للجزيرة نت “رغم أننا أعددنا العدة لرمضان بتخزين ما يتوفر مـن عدس وحمص ورز لكن الواقع أصعب بكثير مما قمنا بتخزينه مـن كميات قليلة متوفر”.
وبدت فريال (35 عاما) راضية عَنْ نجاحها وأفراد أسرتها فى توفير طعام الاسبوع الرمضاني الاول، لكنها غير واثقة مـن قدرتهم على توفير الطعام لبقية الشهر الكريم، وأحصت وجبات الإفطار اثناء هذا الاسبوع بتناول فتة عدس، وحمص وفلافل، وسماقية (طبخة غزاوية تقليدية)، وكبسة اعلنت إنها طبخت على مياه وليس على شوربة اللحم أو الدجاج.
وبسبب ندرة الخضروات فى النصف الشمالي مـن القطاع وارتفاع أسعار بعضها تقول فريال إن أسرتها لم تشترها منذ مدة، ووجدت فى نبتة “السلق” الشبيهة بالسبانخ طعاما لوجبة إفطار.
وتقتصر وجبة السحور لدى أسرة فريال على قطعة مـن الحلاوة كانـت ضوء بطاقة حمراء مساعدات إغاثية حصـلت عليه، وعندما نفدت لم تجد أمامها سوى الشاي والماء.
ولم يختلف حال المصور الصحفى عمر القطاع وأسرته فى رمضان عَنْ الشهور الماضية، واقتصر خلالها طعامهم اليومي على وجبة واحده، ويقول للجزيرة نت “لم نتسحر فى الأيام الماضية إلا قليلا، وباقي الأيام لم نجد لدينا ما نتناوله على السحور، اما الإفطار فبما هو متوفر مـن طعام، حيـث الأسواق فارغة إلا مـن كميات قليلة مـن الخضار متردية الْجَوْدَةُ وبأسعار فلكية”.
ويقيم عمر مع زوجته وطفليه لدى أسرتها فى حي الدرج بمدينة غزة بعدما دمرت غارة جوية إسرائيلية منزله فى المدينة، وبالنسبة له فإن “رمضان الذى ننتظر قدومه لما فيه مـن خير وبركة وأجواء جيدة تختلف عَنْ باقي شهور العام لم يكن ايضا هذا العام على غزة وأهلها، خاصة فى الشمال الذى يتعرض للقتل قصفا وجوعا”.
ولم يشهد هذا الصحفى الثلاثيني حربا على غزة أسوأ أو أشدة قسوة مـن هذه الحرب، وازدادت قسوتها مع حلول شهر رمضان، حيـث يفتقد الغزيون كل طقوسهم الرمضانية المعتادة، وحرمتهم الحرب مـن “لمة العيلة” جراء القتل والنزوح.