وُضعت إيران فى موقف حرج للغاية، دَوْلَةٌ وثورة ومكانة ودورًا، وفي حالة لا تحسد عليها. فالرد على الصفعات التى تلقتها وتتلقاها هى وحلفاؤها مـن الدولة العبرية قد يكون له مـن التبعات والعواقب ما لا تقوى على تحمله وحمله، اما السكوت وعدم الرد فسيهوي بمصداقيتها الي الحضيض بين حلفائها وأتباعها وسيهز صورتها، ويؤثر وبشكل كثير على دورها ومكانتها إقليميًا ودوليًا.
الامر الذى كان أكثر ضررًا على إيران، هى الروايات والسرديات التى قدمها محللون ومراقبون، ذهبت أكثر مـن الحديث عَنْ التردد الإيراني أو حتـى العجز عَنْ الرد على تجاوزات وانتهاكات الإسرائيليين، لتتحدث عَنْ صفقة إيرانية إسرائيلية أميركية، قدمت بها طهران حزب الله لقمة سائغة لإسرائيل، وتخلت عنه فى ساعة العسرة – سوى مـن تصريحـات لا تسمن ولا تغني مـن جوع – فى مقابل تقاسم النفوذ فى الشرق الأوسط، على ان تكون دَوْلَةٌ الاحتلال السيد الاول فى المنطقة، بينما تكتفي إيران بدور الوصيف.
استدلّ أصحاب النظرية التآمرية على ذلك بالمعلومات المذهلة التى وصلت للدولة العبرية، والتي مكّنتها مـن توجيه ضربات قاسية ودقيقة لقيادته العسكرية والسياسية، وصولًا لحسن نصر الله ولمواقع الحزب الإستراتيجية مـن مرابض الصواريخ وحتى مستودعات أسلحته وذخائره. بل إن البعض يذهب أبعد مـن ذلك ليشكك بأن حرص حزب الله الأمني الشديد ما كان له ان يخترق كَمَا جرى فى موضوع البياجر وغيره، ما لم تكن هناك طمأنات إيرانية وعلى مستوى عالٍ.
يستدل المشككون فى الموقف الإيراني والطاعنون فيه والذين انضم إليهم أسماء اعلامية برزت فى العقد الأخير على شاشات القنوات والفضائيات تدافع عَنْ محور المقاومة بشراسة، لتخرج الان فى مقابلات اعلامية تتحدث بطريقة صادمة وصريحة تشكيكًا فى الدور الإيراني ونيلًا منه بتصريحات المسؤولين الإيرانيين فى هذا الصدد. بل إن تصريحـات الرئيس الإيراني خصوصًا فى نيويورك – وعلى الأخص غزله فى الأميركيين – قبيل اغتيال حسن نصر الله، زودت المشككين بذخيرة لا يستهان بها.
فهل يمكن للمتابع والمراقب ولأجيال نشأت وهي تستمع لهتافات إيرانية تنال مـن أميركا والشعار الأشهر: “الموت لأميركا”، أُطلقت لعشرات السنين حتـى وصلت لشعائر الحج وطقوسه، ان تتقبل عبارات على المستوى الرئاسي الإيراني تشيد بأميركا، بينما الطائرات والذخائر المصنعة أميركيًا تتطحن أطفال غزة ولبنان، والغطاء السياسي الأميركي يدعـم الصهاينة فى مجازرهم وانتهاكاتهم وتجاوزاتهم؟
بعيدًا عَنْ التشكيك فى الموقف الإيراني والذي اضطرت إيران للرد عنه ونفيه فى موضوع إسماعيل هنية واغتياله فى طهران وهو فى ضيافتها وحمايتها وكنفها، فإن عدم الرد الإيراني على الاغتيال بعد التصريحات النارية والتهديد والوعيد الإيراني، اعتبره البعض ردًا إيرانيًا يرتضي ويعترف لإسرائيل بالدور الرئيسي فى المنطقة، بينما تتراجع طهران مـن خلفها خوفًا وطمعًا: خوفًا مـن البطش الإسرائيلي والأميركي وطمعًا فى إبقاء نفوذها على عواصم عربية وعلى أجزاء مـن المنطقة.
وإذا كانـت مسألة عدم الرد على اغتيال هنية، مع كل التصريحات النارية التى أعقبته مـن شخصيات إيرانية رفيعة المستوى، وعلى رأسهم خامنئي، تهز مـن مصداقية إيران وتفتح الباب على مصراعيه للتشكيك فى مواقفها، فإن ترك حزب الله فى الميدان وحده فى مواجهه إسرائيل – ودمويتها ومجازرها فى لبنان بحق حاضنة حزب الله الشعبية – والدعم الأميركي الكاسح لها ومن بعد اغتيال حسن نصر الله والذي لم يكن يتوقف عَنْ الإعلان عَنْ ولائه المطلق لإيران ولنظام ولاية الفقيه فيها، أمور سيكون لها على إيران دَوْلَةٌ وثورة تبعات كثيرة وتداعيات خطيرة.
حتـى التصريحات الإيرانية حول ما جرى فى لبنان وما ترصد له حليفها حزب الله والتي بطبيعة الحال لا تكفي، شابها التناقض والغموض، فتارة تسمع ان حزب الله قادر على صد العدوان، وأخرى تقول إنه لا يمكنه الوقوف بمفرده امام دَوْلَةٌ يدعمها الغرب ويزودها بالسلاح.
المنطقة فى إعادة تشكيل وترتيب تواجه منعطفات فارقة ومفترقات حادة بشكل عَامٌ، وإيران على وجه الشأن. وجدت طهران ان السكوت والاكتفاء بالتصريحات والتهديدات اللفظية سيشجع إسرائيل على التمادي فى ضرباتها وتجاوزاتها وتصفيتها قادة المليشيات الذين يدورون فى فلكها، ويهوي بمصداقيتها للحضيض مع حلفائها فى الدول التى لها فيها مليشيات ونفوذ، وربما يتمردون عليها، فرأت ان الفرصة سانحة – مع الانهماك الإسرائيلي على عدة جبهات – لرد مدروس يعيد لها شيئًا مـن هيبتها ويحفظ لها مكانتها بين حلفائها وأتباعها.
بدأ الاعتذار الإيراني غير المباشر مـن الأتباع والحلفاء بتصريح الرئيس الإيراني بأن الدول الغربية كذبت على إيران وخدعتها بعد اغتيال هنية بوعدها بوقف الاعلان النار على غزة، مقابل عدم الثأر والرد على استهداف القائد الفلسطيني على أراضيها وفي ضيافتها.
ضربت طهرانُ إسرائيل وبشكل مباغت، وصرحت بشكل واضح بأنها استهدفت المنشآت العسكرية وليست المدنية فى دَوْلَةٌ الاحتلال، وأنها ستصعد وتضرب البنية التحتية إذا ما ردّت إسرائيل على ضربات الثلاثاء.
ما يفهم مـن ذلك ان إيران اعتبرت ضربتها كافية ووافية، وأنها لن تقوم بالتصعيد وما تريده قد لا يتجاوز حفظ ماء وجهها.
الكره الان فى الْمَلْعَبُ الإسرائيلي، فإن ردت إسرائيل المنتشية وقيادتها السِّيَاسِيَّةُ والعسكرية (خصوصًا مـن المتطرفين) واغتنمت الفرصة لاستهداف المواقع النووية، فنحن امام كرة نار تتدحرج بطريقة مـن الصعب التنبؤ بها، اما إذا مارست واشنطن وحلفاؤها ضغوطًا على الاحتلال للاكتفاء بالرد الشديد على “محور المقاومة” مـن ناحية الأطراف لا على القلب مقابل رِشا عسكرية وسياسية، فقد نشهد احتواء للتصعيد، وستحاول الدولة العبرية تعويض هزة الثلاثاء الفاتح مـن أكتوبر/تشرين الاول النفسية والمعنوية، بمزيد مـن الضربات الموجعة لحزب الله وحلفاء إيران فى المنطقة، ما استطاعت الي ذلك سبيلًا.
الآراء الواردة فى المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.