أخبار عالميةأخبار عربيةأخبار فلسطينالاخبار العربية والعالمية

هل يقوض نتنياهو أسس الدولة العبرية؟ | سياسة سام نيوز اخبار

لم يكن أحد ليتوقع ان إسرائيل بكل قوتها وجبروتها وبدعم أميركي وغربي غير محدود وتواطؤ إسلامي وعربي رَسْمِيٌّ أو إذا ما أحسن الظن بخذلان رَسْمِيٌّ عربي، ستقف عاجزة كسيرة بل مهزومة مأزومة امام مقاومة غزة وصمود شعبها وتضحياته الأسطورية بعد نحو نصف عَامٌ مـن قصف وحشي متواصل، وحصار إجرامي منقطع النظير، وقطع لجميع شرايين الحياة، وتدمير للبنى التحتية، واستخدام سلاح القتل تجويعًا وتعطيشًا والذي مس بالفئات الأكثر هشاشة مـن الأطفال والشيوخ.

اثناء أعلنت إسرائيل الحرب على غزة، مهّدت لها ببروباغندا محمومة حملت المزيد مـن المغالطات والأكاذيب والمبالغات، مثل: اغتصاب النساء، وقطع رؤوس الأطفال. كانـت تلك الحملة – والتي ردد أصداءَها بايدن وغيره مـن المسؤولين الغربيين بشكل متعمد وممنهج – تهدف لتغطية تجاوزات الاحتلال وانتهاكاته المرتقبة.

ولما صرح نتنياهو وحكومته الحرب على غزة وعن أهدافهم مـن اجتثاث المقاومة وتحرير الأسرى، كان مـن المتوقع ألا تصمد غزة أكثر مـن شهر، حينها حبس العالم أنفاسه، وتُركت غزة تواجه مصيرها.

بسالة وقدرات مذهلة

ابتعد الجميع عَنْ غزة، حتـى ما يسمى بمحور المقاومة نأى بنفسه عنها فى البدايات بشكل شبه كامل، وصرح رموزه بأن قرار “طوفان الأقصى” كان قرارًا فلسطينيًا خالصًا.

اما النظام العربي والإسلامي الرسمى فأعلن عَنْ عـقد قمه غزة الطارئة بعد أكثر مـن شهر مـن بداية حرب الإبادة، وكأن التوقعات كانـت تشير الي ان انتهاء مسألة غزة سيكون قبل موعد عـقد القمة، وكأن هـدف تلك القمة الحقيقي وغير المعلن، هو المساهمة فى الإعداد لما أسماه الصهاينة بترتيبات اليـوم القادم.

بسالة المقاومة وأساليبها ومهاراتها وقدراتها العالية وإعلامها الاستثنائي، إضافة الي صمود الحاضنة الشعبية رغم وحشية وإجرام الاحتلال غير المتناهي، قلبت الصُّورَةُ بشكل جذري، وغيّرت المعطيات ليمتد تأثير معركة “طوفان الأقصى” مـن فلسطين والمنطقة الي المشهد العالمي، معيدًا صياغة المزيد مـن المفاهيم، وليدفع بتغييرات كبيرة فى الرَّأْي العالمي، تزداد عمقًا وتأثيرًا مع مرور الوقت، وعجز الصهاينة عَنْ إنجاز ولو هـدفًا يتيمًا مـن أهدافهم العديدة التى أعلنوها بدايةَ العدوان.

اعلن أكثر مـن مسؤول صهيوني – بعد مرور أسابيع مـن الإخفاق والنكسات والخسائر العسكرية المتعاظمة – عَنْ انّ معركة غزة بالنسبة للكيان هى معركة مصيرية ووجودية. نزعت دَوْلَةٌ الاحتلال كل قفازاتها وأسقطت جميع أقنعتها، وزادت مـن وتيرة جرائمها وانتهاكاتها بحق القطاع وأهله، وخصوصًا النساء والأطفال، وتجاوزت جميعَ الخطوط الحمراء.

وبدت الأكاذيب تتهاوى والدعايات الزائفة تتساقط، وكان تعامل حماس والمقاومة مع الأسرى الإسرائيليين علامة فارقة غيّرت الي حد ما صورة المقاومين دوليًا، وأظهرت جزءًا مـن إنسانيتهم الرفيعة والتي حاول الاحتلال – ولا يزال – ان ينزعها عنهم، خصوصًا على مستوى الرَّأْي العالمي. حتـى بايدن – والذي تبنى ولا يزال الرواية الإسرائيلية – شعر بالحرج، فتراجع على سبيل المثال فى تشكيكه بأرقام الشهداء والضحايا، ليعود مؤخرًا فيذكر الأرقام التى تذكرها وزارة الصحة الفلسطينية فى غزة.

مزاعم وابتزاز

بنَت إسرائيل وجودَها فى فلسطين – مـن بعد الأساطير اليهودية – على المظالم التى لحقت باليهود فى أوروبا، وخصوصًا على أيدي النازيين، وبقي ملف الهولوكوست أداة ابتزاز وسيفًا مسلطًا على مـن يعارض الاحتلال تحت مزاعم معاداة السامية.

وحُرم الإعلاميون والمفكرون والأكاديميون فى الغرب مـن أية مناقشة علمية حول الهولوكوست كعدد الضحايا مثلًا أو طرح اى تساؤلات أكاديمية لا تتفق والرواية الإسرائيلية، وتمت ملاحقة وتجريم العديد منهم، مثل الفيلسوف الفرنسي الراحل رجاء غارودي الذى كتب كتابًا بعنوان: “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”.

وإذا كانـت اخبار المحرقة اليهودية قد وصلتنا بالنقل وعبر مصادر تاريخية، فإن محرقة غزة تبث على الهواء ويراقب العالم صورها يوميًا ومن شهور، ويسمع أنين أطفالها وبكاءهم، ويرى أشلاء بعضٍ منهم تختلط بالركام، وعظام آخرين قد بدت مـن الجوع والضنك.

يتهرب نتنياهو المأزوم سياسيًا مـن الدخول فى مفاوضات جادة تفضي الي وقف لإطلاق النار؛ خشيةً على مستقبله السياسي، وخوفًا مـن محاكمته على اتهامات سابقة بالفساد. يمضي نتنياهو فى سياسة حافة الهاوية، مندفعًا بكل جبروت وغباء منقطع النظير فى غيّه وإجرامه ومجازره فى غزة؛ متأملًا ان تنهار الحاضنة الشعبية، وأن ترفع المقاومة الراية البيضاء، وبعد ذلك فإن العالم والمجتمع الدولى سيقبل تبريرات المنتصر، ولو كانـت تافهة، ويتفهم شروحاته ولو كانـت كاذبة.

ضغوط كبيرة

لم يترك نتنياهو جريمة امام الإنسانية فى غزة إلا واقترفها دَاخِلًٌا التَّارِيخُ كأحد ابرز طغاته ومجرميه. دمر البيوت والبنية التحتية والمدارس، استهدف المستشفيات والمساجد والكنائس ومخيمات الإيواء، استخدم الأسلحة المحرمة دوليًا، جوّع أطفال غزة، وتسبب فى قتل كثيرين منهم جوعًا وجفافًا.

الخداع الصهيوني العالمي – بأدواته الإعلامية ولوبياته ونفوذه والذي كان مهيمنًا على العقول فى الغرب – فككته محرقة غزة، والذين كانوا يزعمون أنهم أحفاد مـن تعرضوا للظلم والاضطهاد والإبادة تاريخيًا، يمارسون أسوأ الجرائم وبشكل متواصل وموثق بل وتبث على الهواء.

وإذا كان “طوفان الأقصى” قد أسقط أسطورة الجيش الذى لا يقهر، وأثبتت المقاومة مـن بعدُ بإمكاناتها المتواضعة خور هذا الجيش وضعف معنوياته وقيمه وقدراته، فإن تصرفات وسلوكيات دَوْلَةٌ الاحتلال بحق غزة وأطفالها، قد هوت بالقيم الأخلاقية التى كان يتبجّح بها الإسرائيليون وبالحديث المخادع عَنْ أنهم الدولة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة.

لقد عرضت الاحداث وبرهنت على ان مـن يحكم إسرائيل عصابة مـن القتلة الهمجيين الذين لا يقيمون لحقوق الإنسان وكرامته أية قيمة أو وزن. الرَّأْي العام الغربي – خصوصًا جيل الشباب منه – أعرب بمظاهراته الضخمة التى لم تتوقف بل ويزداد زخمها، عَنْ معارضته الكبيرة لسلوكيات دَوْلَةٌ الاحتلال وجرائمها، وعن رفضه الهيمنة الصهيونية على القرار السياسي فى بلدانهم.

حتـى إنّ السياسيين الغربيين الذين وقفوا بشراسة مع الاحتلال بدايةَ عدوانه على غزة، وجدوا أنفسهم محرجين امام رأي عَامٌ عارم فى غضبه وحاشد فى رفضه، فاضطروا إما لتراجع تكتيكي عَنْ دعـم الاحتلال وجرائمه، أو لتغيير فى نبرات تصريحاتهم وظاهر مواقفهم.

رئيس الوزراء البريطاني سوناك، على سبيل المثال، شدّد اثناء لقائه عضوَ مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس اثناء زيارته الاخيره للندن على وجود ضغوط كبيرة مـن الشارع والبرلمان البريطانيين بشأن ما يحدث فى قطاع غزة.

أحد تجليات الغضب الشعبي الغربي والبريطاني كان فـوز السياسي البريطاني جورج غالاوي بمقعد فى الانتخابات الفرعية لمجلس العموم البريطاني بحصوله على 40% مـن أصوات مدينة روتشديل، إثر حملة انتخابية ركزت على قطاعِ غزة ودعمِه بوجه الحرب الإسرائيلية.

سجلّ أسود

ماذا يبقى لدولة الاحتلال وما الذى يبقى منها، إذا ما اهتزت صورتها العسكرية، وانهارت معنويات عسكرييها، واسودّ سجلها الأخلاقي ولاحقتها القضايا الحقوقية والإنسانية فى المحاكم الدولية، واتخذ الموقف العام الغربي مواقف سلبية منها، وتعمّقت الخلافات الداخلية فيها، واعترض كثير مـن القادة العسكريين على تصرفات نتنياهو وحكومته، واشتدّ الضغط على المتدينين للخدمة العسكرية، بينما يهدد كثير حاخامات السفارديم يتسحاق يوسف بسفَر المتدينين خارج البلاد إذا ما أجبروا على الخدمة العسكرية.

الشعور بخطر سياسة نتنياهو وحكومته على الدولة العبرية ومستقبلها دفع بنحو 550 مـن كبار المسؤولين الإسرائيليين السابقين – والذين يشكلون مجموعه تطلق على نفسها اسم “قادة مـن اجل أمن إسرائيل” – لتوجيه رسالة لحكومة الحرب، يحذرون فيها مـن ان أمن إسرائيل ومصالحها الإستراتيجية فى خطر، على خلفية الأزمة الإنسانية فى قطاع غزة.

وتحدثت الرسالة عَنْ الضرر التراكمي الذى يلحق بأمن إسرائيل ومصالحها الإستراتيجية؛ بسـبب سياسة الحكومة بشأن المساعدات الإنسانية لأكثر مـن مليوني شخص مـن المدنيين فى غزة.

وجاء فى الرسالة أنه بعيدًا عَنْ الجوانب الأخلاقية، فإن الأزمة فى قطاع غزة، الذى أصبح على شفا كارثة إنسانية، تشكل تهديدًا للمصالح الوطنيه الحيوية، وأن الضرر الناجم عَنْ سياسة البخل الإنساني – مثل التصريحات الفاضحة غير المسؤولة لوزراء وأعضاء فى الكنيست – يقوض أسس الدعـم الأمني والدبلوماسي لإسرائيل المنبثق مـن العواصم الأكثر اهميه لأمننا.

ما يحدث مـن تحولات فى الرَّأْي العام العالمي، دفع بكثير مـن اليهود للنأي بأنفسهم عما يجري فى غزة واستنكاره؛ خوفًا على مستقبل الجاليات اليهودية حول العالم، مع انتشار الغضب العالمي مـن جرائم الصهاينة فى غزة، وتصاعد تيار اليمين عالميًا، والسأم مـن أكاذيب الرواية الصهيونية والتي قد تدفع بكثيرين للتشكيك بالروايات الصهيونية واليهودية التاريخية.

الخوف على مستقبل اليهود، دفع بالعقلاء منهم للتنديد بما يجري فى غزة، بل وخرج المزيد مـن الشباب اليهودي فى مظاهرات فى نيويورك وغيرها؛ تضامنًا مع معاناة غزة والغزيين.

مـن أوضح الصور فى هذا السياق، إدانة المخرج البريطاني اليهودي جوناثان غليزر الحربَ الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، مذكرًا اثناء خطاب فوزه بالأوسكار بفيلم “منطقه الاهتمام” بما حدث فى الهولوكوست، قائلًا: “جميع خياراتنا تم اتخاذها لتواجهنا فى الحاضر. ولا نقول: انظروا ماذا فعلوا فى الماضي، بل انظروا الي ما نفعله الان”، مضيفًا: “نحن نقف هنا الان بصفتنا رجالًا يدحضون يهوديتهم، وتعرض الهولوكوست للاختطاف على يد احتلال، مما أدى لمصرع المزيد مـن الأبرياء”.

مواقف لاتينية قوية

مواقف دول فى أميركا اللاتينية، منتقدة بشدة للجرائم الصهيونية، ومنها تصريحـات رئيس البرازيل الحادة حول حكومة إسرائيل واصفًا إياها بحكومة الإبادة الجماعية، بينما أشار رئيس كولومبيا الي ان ما يحدث فى غزة إبادة جماعية، تذكرنا بالمحرقة، واستدعت هى وتشيلي والبرازيل سفراءها مـن إسرائيل، بل وذهبت بوليفيا الي حد قطع العلاقات مع دَوْلَةٌ الاحتلال.

تشبيه ما يحدث فى غزة بالمحرقة – الامر الذى تكرر حتـى مع بعض السياسيين الغربيين – يزعج دَوْلَةٌ الاحتلال كثيرًا ويؤثر سلبيًا على الرواية الصهيونية التاريخية.

الغضب الشعبي العربي والإسلامي مـن الجرائم الصهيونية ومن مواقف الحكومات العربية والإسلامية والتي يراها الشارع ما بين متواطئة أو متخاذلة أو عاجزة، هذا الغضب – بالإضافة الي الْأَوْضَاعُ الاقتصاديه الصعبة فى دول عربية – قد يشعل موجات مـن الثورات العربية والتي يترقب ان تتسم بالعنف وربما الدموية.

الامر الذى يؤثر على مسار التطبيع والسلام مع الاحتلال إن لم يكن يهدده وجوديًا، خصوصًا ان مواقف العديد مـن الدول العربية مـن محرقة غزة رسخت قناعات كثيرين بأن هذه الأنظمة وجيوشها تشكل حاجزًا يعيق بلادهم عَنْ سلوك سبيل الحرية والتقدم العلمي والازدهار، وأن مـن ابرز مهام تلك الأنظمة وجيوشها، هى حماية الاحتلال ومكانته الريادية فى المنطقة مـن اثناء التعاون المعلن والمخفي معه، وأيضًا عبر قمع الشعوب وحرمانها مـن حقوقها الأساسية فى المشاركة السِّيَاسِيَّةُ والتعبير عَنْ آرائها وقناعاتها.

استمرار حرب الإبادة على غزة وصمود المقاومة والأثمان الباهظة التى يتكلفها الغزيون وصور المعاناة الإنسانية، هى أمور تستنزف إسرائيل أخلاقيًا وسياسيًا وعسكريًا، ويتوقع ان تزيد مـن عمق الخلافات الداخلية ما بين المتدينين والعِلمانيين، وما بين التيارات المتعددة دَاخِلٌ الكيان.

بتقديري ان غزة بتضحياتها الهائلة وصمودها الأسطوري لن تحدث المشهد الفلسطيني بخطوات واسعة نحو تحرير فلسطين فقط، بل وستمتد تأثيراتها وارتدادتها لتعم المعمورة، ولتكتب بداية أفول كيان قام على الجرائم والمجازر، وتأسس مـن أيامه الأولى على الأكاذيب والأساطير الزائفة.

الآراء الواردة فى هذا المقال هى آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى