بعد شهور مـن الترقب، تم طرح “أوبنهايمر” الفيلم الجديـد للكاتب والمخرج كريستوفر نولان. تبلغ مدة الفيلم ثلاث ساعات وتسع ثوان، يلعـب سيليان مورفي دور جوليوس روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي النظري المعروف على نطاق واسع باسم “أبو القنبلة الذرية”، والذي لخص أعمال حياته فى فيلم وثائقي مـن إنتاج مجموعه “إن بي سي نيوز” عَامٌ 1965 مـن اثناء سرد سطر مـن نص هندوسي مـن كتاب “باهاغافاد غيتا” واصفاً مأساوية ما قام به مـن أعمال يقول: “الان أصبحت أنا الموت… مدمر العوالم”، حيـث أدرك وزملاؤه فى مشروع “القنبلة الذرية” ان العالم لن يكون كَمَا كان بعدئذ، مشيراً الي ان البعض ضحك والبعض الآخر بكى، بينما التزم باقي المشاركين فى المشروع الصمت.
بمناسبة الفيلم عنه -بدخل أتفرجه بعد شوي- أوبنهايمر الحقيقي يتحدّث بندم عَنْ اختراعه للقنبلة الذريّة.. pic.twitter.com/bVcCQlF7AR
— علي بن يعقوب (@AF7_Y) July 21, 2023
وعن حادثة قصف اليابان بالقنبلتين الذريتين، تمتلك البشرية تسجيلاً نادراً مـن وثائقي يعود للعام 1965 حول أوبنهايمر. وفي هذا الوثائقي، اعلن أوبنهايمر عَنْ القنبلة الذرية قائلاً: “الان أصبحت أنا الموت، ومحطم العوالم”.
وقد اقتبس أوبنهايمر هذه الكلمات مـن كتاب البهاغافاد غيتا الهندوسي. ففي حوار بهذا الكتاب، خاطب الإله الهندوسي فيشنو (Vishnu) الأمير محاولاً إقناعه بضرورة إنجاز مهامه. ولإبهاره، أخذ فيشنو شكله متعدد الأيادي قائلاً “الان أصبحت أنا الموت، ومحطم العوالم”.
الي ذلك، اعتمد أوبنهايمر هذه الكلمات بسـبب قراءته للعديد مـن النصوص الهندوسية وإعجابه بها. فمنذ مدة، أبدى أوبنهايمر إعجاباً باللغة السنسكريتية (sanskrit) التى مثلت لغة قديمة دوّنت بها النصوص الهندوسية. وأثناء مدة عمله بجامعة كاليفورنيا ببركلي، درس أوبنهايمر هذه اللغة القديمة وقرأ البهاغافاد غيتا. وفي تصريحه بالوثائقي عَامٌ 1965، قدّم أوبنهايمر ترجمته الخاصة، بالإنجليزية، لما دار بين فيشنو والأمير.
وفق ما نشرته مجـلة Time الأميركية، يستند سيناريو فيلم “أوبنهايمر” فى أحداثه الي كتاب “انتصار ومأساة جيه. روبرت أوبنهايمر” الذى عكف المؤرخان كاي بيرد ومارتن شيروين على كتابته على مدى ربع قرن، والذي حاز جَائِزَةٌ بوليتزر لعام 2006.
يقفز الفيلم ذهاباً وإياباً عبر الزمن حيـث يستكشف حياة وإرث إوبنهايمر. اعلن نولان فى ملاحظات إنتاج الفيلم: “ما أردت فعله هو أخذ الجمهور فى الاعتبار وتجربة شخص جلس فى المركـز المطلق لأكبر تحول فى التَّارِيخُ. شئنا أم أبينا، فإن جيه. روبرت أوبنهايمر هو اهم شخص عاش على الإطلاق. لقد صنع العالم الذى نعيش فيه، فى السراء والضراء “.
ووفقًا لما نشره موقع “بي بي سي”، فإن قرار نولان بسرد قصة القنبلة الذرية مـن اثناء عيون أوبنهايمر، ليس فقط تجاربه ولكن أيضًا مخاوفه، يعطي الفيلم طابعه المعاصر المُلح. إن ما حدث فى هيروشيما وناغازاكي هو تاريخ، لكن التهديد الوجودي للأسلحة النووية لا يزال قائماً كَمَا كان يعلم أوبنهايمر.
بدايات حياة أوبنهايمر
لا تظهر طفولة أوبنهايمر على الشاشة فى الفيلم، لكن نشأته ساهمت فى ظهور الآراء التى يتبناها طوال الفيلم. ولد عَامٌ 1904 لعائلة يهودية علمانية ثرية فى مدينة نيويورك وتلقى تعليمه فى مدرسة الثقافة الأخلاقية فى مانهاتن، وتخرج عَامٌ 1921. على الرغم مـن ان والديه كانا مـن الجيلين الاول والثاني مـن الأميركيين مـن أصل يهودي ألماني، امتنع أوبنهايمر عَنْ اعتناق تراثه معظم حياته.
اعلن راي مونك، مؤلف كتاب “روبرت أوبنهايمر: حياة دَاخِلٌ المركـز”: “بالنسبة للعالم الخارجي، كان يُعرف دائمًا بأنه يهودي ألماني، وكان دائمًا يصر على أنه ليس ألمانيًا ولا يهوديًا. وتأثرت علاقته بالعالم لانه كان هكذا يُنظر إليه”.
أثرت معاداة السامية عليه طوال مدة دراسته فى هارفارد، وبعد ذلك، فى خضم صعود النازيين الي السلطة فى ألمانيا، غير الطريقة التى تعامل بها مع يهوديته.
اعلن أوبنهايمر فى جلسة الاستماع، التى عقدها عَامٌ 1954 امام لجنة الطاقة الذرية الأميركية AEC، إنه كان لديه “غضب مستمر ومتصاعد بشأن معاملة اليهود فى ألمانيا. وكان لدي أقارب هناك، وكنت بينما بعد أساعد فى تخليصهم وإحضارهم الي هذا البلد (الولايات المتحدة)”.
اعوام فى أوروبا
بعد تخرجه بامتياز مع مرتبة الشرف مـن جامعة هارفارد فى عَامٌ 1925، سافر أوبنهايمر الي إنجلترا، كَمَا يصور الفيلم، لإجراء عمليات بحث فى مختبر كافنديش بجامعة كامبريدج تحت إشراف الفيزيائي البريطاني الحائز على جَائِزَةٌ نوبل عَامٌ 1906 جيه. جيه. طومسون. وعانى أوبنهايمر مـن مشاكل الصحة العقلية وانتهى به الامر أنه تم وضعه تحت المراقبة الطبية.
انتقل أوبنهايمر مـن إنجلترا الي جامعة غوتنغن فى ألمانيا، حيـث حصل على درجة الدكتوراه فى فيزياء الكم. اثناء الفتره التى قضاها فى ألمانيا، درس مع عَدَّدَ مـن الفيزيائيين البارزين، مثل ماكس بورن وبوهر. درس أوبنهايمر فى جامعة غوتنغن جنبًا الي جنب مع فيرنر هايزنبرغ (الذى لعب دوره بالفيلم ماتياس شفايغوفر)، والذي استمر فى قيادة الجهود الألمانية لتطوير قنبلة ذرية.
العودة الي أميركا
فى عَامٌ 1929، بعد عودته الي أميركا، تم قبول أوبنهايمر أستاذًا مساعدًا فى جامعة كاليفورنيا. على مدى السنوات الـ14 التالية، نجح أوبنهايمر فى تحويل معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الي ان يصبح واحدًا مـن أعظم مدارس الفيزياء النظرية فى الولايات المتحدة وحصل على أتباع مخلصين مـن علماء الفيزياء الصاعدين. يصور الفيلم نمو البرنامج مـن اثناء حضور طالب واحد فقط الي محاضرات أوبنهايمر الأولى، ثم تزايدت أعداد الطــلاب وازدحمت المدرجات فى غضون وقت قصير بعد انتشار اخبار فصله بين الطــلاب. عمل أوبنهايمر أيضًا جنبًا الي جنب، وأصبح صديقًا جيدًا للفيزيائي التجريبي الرائد إرنست أو.
يُظهر الفيلم كيف كانـت الحكومة الأميركية على علم وتشكك فى انتماءات أوبنهايمر الشيوعية فى وقت مبكر، لكنها اختارت التغاضي عنها اثناء مشروع مانهاتن عندما أصبح مـن الواضح أنه الرجل المناسب للوظيفة. ولكن ستعود هذه الجمعيات الشيوعية فى النهايه لتطارده وتؤدي الي تدمير حياته المهنية فى ذروة الهستيريا الأميركية المناهضة للشيوعية فى الخمسينات مـن القرن الماضي.
مشروع مانهاتن
فى أوائل عَامٌ 1942، تم تجنيد أوبنهايمر فى مشروع مانهاتن، وهو المشروع السري لحكومة الولايات المتحدة فى الحرب العالميه الثانية الذى تعهد ببناء قنبلة ذرية. فى وقت لاحق مـن ذلك العام، قام الجنرال ليزلي غروفز، (الذى يقوم بدوره مات ديمون)، بتعيين أوبنهايمر كمدير علمي للبرنامج، وفي أوائل عَامٌ 1943، بدأ البناء فى مختبر لوس ألاموس فى نيو مكسيكو – وهو أحد المختبرات فى عَدَّدَ مـن المواقع السرية فى جميع ارجاء الولايات المتحدة، بما يشمل شيكاغو وأوك ريدج بولاية تينيسي، المشاركين فى عملية مشروع مانهاتن. أقنع أوبنهايمر غروفز بأن لوس ألاموس يجب ان تتحول الي مدينة حيـث يمكن للعلماء العيش مع عائلاتهم، لأن الكثيرين ربما يرفضون الانتقال اليها مالم تكن هناك مدينة للعيش بها.
جمع أوبنهايمر مجموعه مـن كبار العلماء فى ذلك الوقت للعيش والعمل فى لوس ألاموس حتـى اكتمال القنبلة. بعد أقل مـن ثلاث اعوام مـن تأسيس المختبر، تم إجراء أول اختبار للأسلحة النووية فى العالم، أطلق عليه اختبار ترينيتي، فى صحراء غورنادا ديل مويرتو القريبة فى 16 يوليو 1945. نجح الاختبار فى إثبات نجاح القنبلة، لكن نتائـج الاختبار تسببت فى عقود مـن الضرر الجسيم للسكان الأصليين الذين يعيشون فى المنطقة المحيطة.
بعد ثلاثة أسابيع، فى 6 و9 أغسطس على التوالي، فجرت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين فوق مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، منهية الحرب، حيـث أدت التفجيرات مجتمعة الي قتل ما يقدر بنحو 110.000 الي 210.000 شخص، معظمهم مـن المدنيين.
حياة أوبنهايمر بعد الحرب
بعد الحرب، تذبذب الرَّأْي العام حول استخدام القنبلة الذرية. اثناء زيارته للبيت الأبيض فى أكتوبر 1945، كَمَا يظهر فى الفيلم، اعلن أوبنهايمر للرئيس هاري ترومان (الذى لعب دوره غاري أولدمان)، “سعادة الرئيس، أشعر ان يدي ملطخة بالدماء “.
لكن تم الترحيب بأوبنهايمر كبطل قومي جاء الى الكثيرين، وفي عَامٌ 1946، حصل على وسام الاستحقاق. عندما أصبح مشروع مانهاتن خاضعًا للولاية القضائية لـ AEC المشكلة حديثاً، وهي الوكالة المكلفة بالإشراف على جميع الأبحاث والتطوير الذري فى الولايات المتحدة، تم تعيين أوبنهايمر رئيساً للجنة الاستشارية العامة. كرئيس، عارض بشدة تطوير القنبلة الهيدروجينية – “القنبلة الخارقة” التى تصورها زميل لوس ألاموس العالم إدوارد تيلر، (الذى قام بدوره الممثل بيني سافدي)، والتي كانـت أقوى ألف مرة مـن القنبلة الذرية – عندما بدأت توترات الحرب الباردة فى الارتفاع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك.
فى عَامٌ 1947، تم تعيين أوبنهايمر أيضًا مديرًا لمعهد الدراسات المتقدمة فى برينستون جاء الى لويس شتراوس (قام بدوره روبرت داوني جونيور)، والذي أصبح بينما بعد رئيسًا للجنة الاقتصاديه لأوروبا.
جلسة استماع بالكونغرس
اثناء مدة رئاسته للجنة الاستشارية العامة، أدى موقف أوبنهايمر المثير للجدل مـن القنبلة الهيدروجينية الي اكتسابه عَدَّدًَا مـن الأعداء السياسيين، مـن بينهم شتراوس، الذى أهانه أوبنهايمر فى جلسة استماع بالكونغرس حول حظر بيع النظائر المشعة أم لا، وهو ما أثار كراهية الفيزيائي لأوبنهايمر بشكل حصري.
فى نوفمبر 1953، أرسل ويليام ليسكوم بوردن (الذى لعب دوره ديفيد داستمالشيان)، أحد المقربين مـن شتراوس والمدير التنفيذي السابق للجنة الكونغرس المشتركة للطاقة الذرية، رسالة الي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيه إدغار هوفر يلمح فيه الي ان “جيه. روبرت أوبنهايمر عميل للاتحاد السوفيتي”.
تم تمرير الرسالة الي الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور وتم إبلاغ أوبنهايمر بإلغاء تصريحه الأمني فى اجتماع عـقد فى ديسمبر 1953 مع شتراوس. لكن ترصد أوبنهايمر بطلب استئناف للقرار، وبالفعل فى 12 أبريل 1954، بدأت جلسة استماع أمنية استمرت لمدة شهر، تم خلالها استغلال الميول والجمعيات الشيوعية السابقة التى تعامل معها أوبنهايمر، والآراء حول السياسة النووية الأميركية، وغيرها مـن التجاوزات الشخصية لتشويه سمعته.
الحياة فى وقت لاحق
جاءت نتيجه جلسة الاستماع الأمنية لتعريف أوبنهايمر لبقية حياته، حيـث اعلن صديق أوبنهايمر المقرب وزميله الفيزيائي إيزيدور إسحاق رابي، (الذى أدى دوره الممثل ديفيد كرومهولتز)، بينما بعد إن “(أوبنهايمر) كان رجل سلام ودمروه. لقد كان رجل علم ودمروا هذا الرجل. (إنهم) مجموعه صغيرة لئيمة”.
اثناء أوبنهايمر مديراً لمعهد الدراسات المتقدمة حتـى عَامٌ 1966، قبل وقت قصير مـن وفاته بسرطان الحلق فى منزله فى برينستون فى 18 فبراير 1967. وقبل وفاته، تم منحه فى عَامٌ 1966 أعلى وسام شرف مـن AEC، جَائِزَةٌ Enrico Fermi، وهي الجائزة التى يظهر فى المشهد الأخير للفيلم اثناء تلقيها بسرعة جاء الى الرئيس ليندون جونسون بينما يتحدث الي ألبرت أينشتاين، (الذى يلعـب دوره توم كونتي).