ما إن اتضحت نتائـج الساعات الأولى مـن معركة طوفان الأقصى التى أعلنتها كتائب القسام -الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- وتكشّف حجم الفشل والعجز الذى أظهرته قوات الاحتلال فى مواجهتها، حتـى خرج رئيس وزراء الاحتلال مهددا بردود قاسية وغير مسبوقة لدرجة “إنشاء شرق أوسط جديد”.
مرحلة صادمة ومهينة
اختارت المقاومة الفلسطينية لعمليتها توقيتا قاتلا تمثل فى نهاية الأعياد اليهودية وعطلة السبت بعد ذروة اقتحامات المسجد الأقصى، مما نتج عنه تراخ وغرور قوة لدى قوات الاحتلال. كَمَا عرضت كتائب القسام حالة متقدمة جدا مـن التخطيط الدقيق والتنفيذ الحَرْفى والاحترافي للخطة وبسالة فى المواجهة. فكانت نتيجه كل ما سبق، مع عوامل أخرى، مفاجآت غير مسبوقة فى جولات المواجهة مع الاحتلال وحالة مـن الإهانة غير المسبوقة لقواته، لا سيما ان معظم المواجهات والنتائج تم توثيقها وعرضها عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف لا يترك مجالا لإمكانية إنكارها.
تقول الأرقام بما لا يدع مجالا للشك إن المؤسسة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية”، التى تروّج لنفسها قدرات وإمكانات أسطورية مـن قبيل “الجيش الذى لا يقهر”، قد تعرضت لهزيمة قاسية ومذلة على أيدي المقاتلين الفلسطينيين. تتحدث المصادر الرسمية عما يزيد على 1200 قتيل وأكثر مـن ضعفهم مـن الجرحى، وزهاء 350 مفقودا، مع توقعات بوجود ما يقرب مـن 200 أسير لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، فضلا عَنْ الفشل والعجز والتأخر بل والتخبط الكبير الذى أصاب الشرطة والجيش “الإسرائيليين”، وهو ما أدى لعدة اشتباكات سقط فيها قتلى وجرحى، منهم على أيدي بعضهم البعض اشتباها وخوفا مـن ان يكونوا فلسطينيين.
يريد نتنياهو رد الاعتبار لقواته أو بالأحرى التغطية على ما حدث لها ويسعى لتقديم اى إنجاز يخفف حدة الحساب بعد انتهاء المعركة
يدرك نتنياهو وحكومته دلالات ما حدث وانعكاساته على المدى البعيد، وفي مقدمتها المس بهيبة جيش الاحتلال وضعضعة معنوياته مقابل الدفعة المعنوية الكبيرة التى حصل عليها المقاومون، وخصوصا بعد توثيق المواجهات والاشتباكات المباشرة بين الجانبين، مما سينعكس بالتأكيد على اى مرحلة صراع فى المستقبل وبما ينقل القضية الفلسطينية الي مرحلة مختلفة تماما. وثانيها ان مستوطنات ما تسمى غلاف غزة لن تعود لسابق عهدها لا بالمنطق الأمني العسكري، ولا بكثافة المستوطنين السابقة، بما يفقدها الدور الذى كانـت تلعبه لمحاصرة القطاع. وثالثها إرغام الاحتلال على إبرام صفقة تبادل أسرى سيقدم فيها “تنازلات” كبيرة ومحرجة له بالنظر للعدد الكبير مـن الأسرى فى يد الفلسطينيين، بعد ان تمنّع طويلا عَنْ ذلك.
خيارات نتنياهو
يتضح مما سبق حجم الكارثة التى تواجهها دَوْلَةٌ الاحتلال ومؤسساتها العسكرية والأمنية، وفي القلب مـن ذلك مسؤولية الحكومة -بقيادة نتنياهو- عَنْ هذه الصُّورَةُ المذلة التى ظهرت بها، إذ يستشعر نتنياهو ان فاتورة الحساب ستكون عسيرة جدا عليه بعد انحسار غبار المعركة، مما قد يكلفه إنهاء مسيرته السِّيَاسِيَّةُ كَمَا حصل مع إيهود باراك قبل اعوام بعد مواجهه مع المقاومة الفلسطينية، لا سيما أنه -اى نتنياهو- يُواجِه أصلا منذ شهور طويلة معارضة داخلية كبيرة على هامش محاولة تحجيم دور القضاء فى الحياة السِّيَاسِيَّةُ تحصينا لنفسه مـن الملاحقة بتهم الفساد.
ولذلك، بعد امتصاص الصدمة على مدى اليـوم الاول الذى غابت فيه حكومة الاحتلال أو كادت، خرج نتنياهو بتصريحات رسمت معالم ما يدور فى رأسه لمواجهة ما حصل وتحديد تداعياته على المديين القريب والبعيد.
أولى هذه الخطوات محاولة تصليب الجبهة الداخلية ومنع تصاعد الأصوات الناقدة والمطالبة بالاستقالة/ المحاسبة بالدعوة لحكومة طوارئ أو وحدة وطنية ليشاركه مسؤولية الأيام القادمة مـن هم فى صفـوف المعارضة حاليا، وهو مسعى يبدو أنه تم التوافق عليه.
وفي ما يتعلق بالمعركة، يتحدث نتنياهو عَنْ الانتقام ويتحدث وزير دفاعه عَنْ “حيوانات بشرية” لا حدود ولا موانع للتعامل معها. يريد نتنياهو رد الاعتبار لقواته، أو بالأحرى التغطية على ما حدث لها، ويسعى لتقديم اى إنجاز يخفف حدة الحساب بعد انتهاء المعركة، لكنه يدرك ايضا ان بنك أهدافه المتعلق بالمقاومة فقير ولا يسعفه فى هذا المسعى. ولذلك، فاتجاهه سيكون إيقاع أكبر عَدَّدَ مـن المجازر المروعة بحق المدنيين الفلسطينيين فى القطاع، وهو ما بدأه منذ اليـوم الثانى تقريبا، ولكن تكثف بشكل واضح فى الأيام التالية.
يحاول جيش الاحتلال مـن اثناء هذه السياسة للانتقام أولا، وتهدئة الجبهة الداخلية ثانيا، والضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة لتضغط بدورها على المقاومة ثالثا، ومحاولة تفريغ القطاع مـن سكانه تسهيلا لعملية برية محتملة وربما عملية تهجير واسعة رابعا. مـن هذا المنطلق يمكن فهم الحرص “الإسرائيلي” على حشد أكبر دعـم دولي ممكن، وفي مقدمته الدعـم اللامحدود واللامشروط مـن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
كَمَا يحاول نتنياهو لتخفيف فاتورة الأسرى قدر الإمكان مـن اثناء الضغط المباشر وغير المباشر -عبر الدول الغربية- على قوى إقليمية ذات علاقة مع حماس لفرض الاعلان سراح أو تبادل يشمل المدنيين مـن الأسرى، خصوصا النساء والمسنين منهم اثناء الحرب.
وأخيرا، مـن اثناء إدراكه اختلاف الجولة الحالية مـن المواجهة بشكل جذري عَنْ سابقاتها، يرى نتنياهو ان عملية برية واسعة لا مفر منها على المدى البعيد، إذ تأكد فشل سياسات الاحتواء السابقة للمقاومة، بيد ان عملية مـن هذا النوع لن تكون ممكنة إلا بعد تأمين نطاق المستوطنات وغلاف غزة الذى ما زال يشهد لقاءات ساخنة بعد أيام مـن بدء العملية.
ما العمل؟
بسـبب فداحة ما تعرضت له دَوْلَةٌ الاحتلال ومؤسساتها الأمنية والعسكرية وخطورة ما تخطط له بخصوص غزة ومقاومتها، كان حرصها الكبير على حشد أكبر دعـم مفتوح ممكن، ولذلك تحركت الدول الغربية بشكل شبه منسق فى بيانات مشتركة ومواقف تستخدم العبارات نفسها تقريبا، مـن شيطنة الفلسطينيين الي ترديد اتهامات للمقاومة بارتكاب جرائم حرب، وصولا الي “الطلب مـن نتنياهو التعامل بحسم مع حماس”.
ولذلك، فإن مواقف الدول العربية والإسلامية عملية جدا فى هذا السياق، ذلك ان كل موقف إما ان يصب فى دعـم هذا التوجه أو يواجهه ويرفضه، مـن حيـث قصد أو لم يقصد. وهنا تتبدى اهميه كبيرة ليس فقط للمواقف، بل للصياغات والعبارات المستخدمة، ولذلك كان مـن المؤسف ان تستخدم بعض الدول عبارات قد تُفهم منها المساواة بين الطرفين، الاحتلال وفصائل المقاومة، إذ يغذي ذلك نوازع الانتقام الدموي لدى نتنياهو، فضلا عَنْ الدول التى دانت المقاومة الفلسطينية وحمّلتها المسؤولية.
الهامة الأولى فى هذا الإطار هى وقف ما يقوم به جيش الاحتلال مـن مجازر وحشية بالمدنيين فى غزة، ثم العمل على كسر الحصار وإيصال المواد الأساسية مـن غذاء ودواء ووقود إضافة للمستشفيات الميدانية وغيرها. ثم ستكون هناك مسؤوليات لاحقة تتمثل فى وقف الحرب فى أقرب وقت ممكن لتقليل فاتورة الدماء قدر الإمكان.
وهنا، تملك الدول العربية والإسلامية أوراق قوة وتأثير يمكن وينبغي استخدامها، مثل المنظمات الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة (تحسبا للفيتو الأميركي) وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، على ان يكون ثمة توجه صادق لاتخاذ مواقف وقرارات حقيقية قادرة على الضغط على “إسرائيل”. كَمَا تقع مسؤولية خاصة على الدول التى نسجت علاقات تطبيعية مع دَوْلَةٌ الاحتلال أو تسعي الي ذلك، إذ لا يمكن تصور استمرار هذه العلاقات فى اثناء ما ترتكبه دَوْلَةٌ الاحتلال مـن فظائع فى قطاع غزة.
ولكن بالنظر الي عدم توقع مواقف حقيقية وعالية السقف مـن منظومة العمل العربي والإسلامي المشترك كَمَا يحدث دائما، يبقى التعويل الرئيس على الثمن الذى يمكن ان يدفعه الاحتلال جراء ما يقترفه. وتتقدم هنا المقاومة الفلسطينية فى غزة الركب ضوء ما قدمته وتقدمه حتـى الان، بحيث توجّه لقلب الاحتلال ضربات موجعة كلما تمادى فى استهداف المدنيين، لكن مـن المطلوب والضروري ايضا ألا تُترك وحدها فى الميدان، بل ينبغي على كل مـن يعدُّ نفسه حليفا أو صديقا أو داعما ان ينخرط بأسرع وقت وبالسقف الأعلى الممكن ليشكل معها حالة ضغط وتدفيع ثمن للاحتلال، إذ إن ذلك وحده -فى ما يبدو حتـى اللحظة- القادر على لجم نتنياهو وحكومته.