الاخبار العربية والعالمية

فيلم “القاتل”.. توثيق لحظة التوحش فى عالم أخرس | فن سام نيوز اخبار

يوثق الفيلم الأميركي ” القاتل” (The Killer) للمخرج ديفد فينشر، لحالة مـن حالات “الخرس” و”انقطاع التواصل” فى العالم إلا مـن اثناء الرصاص والدم. فرغم بلوغ مدة عرضه نحو الساعتين فإن الحوار فى الفيلم لا يتجاوز بضع جمل، بينما منح القاتل فرصته الكاملة فى سرد القصة برؤيته الخاصة عبر استخدام التعليق الصوتي.

والفيلم هو الـ95 فى مسيرة مخرجه، وهو مـن بطوله مايكل فاسبندر الذى جسد شخصية قاتل محترف، يُعد الالتزامُ بقواعد المهنة ابرز صفاته، فلا مشاعر ولا أخلاق ولا ندم يمكن ان يثنيه عَنْ مهمته التى يتقاضى الأجر عليها، لكنه ينحدر نحو خسارة الكفاءة التدريجي بسـبب أوقات انتظار اللحظة المناسبة التى يستطيع خلالها ان يطلق النار على ضحاياه، ويحدث بالفعل ان يخطئ هدفه فيتحول الي هـدف مطلوب التخلص منه، وتبدأ معركة دموية بينه وبين شركائه السابقين.

ويعد الاعلان فيلم جديد لديفد فينشر مناسبة سينمائية تستحق الاحتفاء، لكن الفيلم الجديـد لم يحقق الإيرادات المتوقعة، رغم ان تاريخ فينشر مع صناعة الأفلام قد تَشكل عبر نجاحات اعترف بها الجمهور والنقاد على اختلاف انتماءاتهم السينمائية. ومن بين أفلامه التى حققت نجاحات كبرى “حالة بنجامين بوتون العجيبة” 2008 (The Curious Case of Benjamin Button)، و”الشَّبَكَةُ الاجتماعية” 2010 (The Social Network)، و”سبعة” Seven) 1995)، و”فريق القتال” Fight Club)1999)، و”زودياك” Zodiac) 2007)، و”الفتاة ذات وشم التنين”2011 (The Girl with the Dragon Tattoo).

وكان فيلم “القاتل” عُرض فى الدورة الـ80 مـن مهرجان فينيسيا فى الثالث مـن سبتمبر/أيلول الماضي، ثم انطلقت عروضه التجارية فى نهاية أكتوبر/تشرين الاول الماضي فى دور العرض، وأخيرا بدأ عرضه على شاشة منصه نتفليكس فى العاشر مـن نوفمبر/تشرين الثانى الحالي.

عودة الفيلم المظلم

يحمل فيلم “القاتل” ملامح سينما فينشر، بدءا مـن الأجواء المقبضة التى تفيض بها أغلب أعماله الاخيره الي تناول سيرة القتلة، مع ذلك الشغف الذى يصل الي حد الهوس بالتفاصيل الدقيقه للأشياء. لكن جرعة “العتمة” التى تسوق بالضرورة الي أجواء مخيفة ومربكة وأحيانا مسببة للاكتئاب، ارتفعت فى هذا العمل الذى جمع أغلب سوآت المجتمع الغربي وبينها العزلة والعدوانية وتقنين كل تفاصيل الحياة وصنع قواعد لها، مما جعل القاتل أو “مايكل فاسبندر” يبدو وكأنه روبوت بسـبب انتظام حركته وعدم وجود ابتسامة واحده على وجهه طوال ساعتين مـن الدراما الفردية.

ويعود فينشر فى فيلمه الجديـد بالزمن أكثر مـن 80 عاما الي الوراء ليعيد إحياء نوع معين مـن الأفلام ظهر فى أربعينيات القرن الماضي وأطلق عليه “فيلم نوار” (Film Noir)، وهو نوع أميركي نموذجي فى الولايات المتحدة. ووفقًا للمؤرخ السينمائي باتريك بريون، فإن هناك “مصائر مأساوية لا يمكن التغلب عليها تسحق شخصياته وتتمثل فى النهايه التراجيدية”.

ويقدم فينشر “فيلم نوار جديدا” (Neo Noir)، حيـث يضيف الي قيم فيلم نوار الفرنسي الأميركي لمرحلة ما بعد الحرب العالميه الثانية سمة حديثة ترتبط بعالم القرن الـ21 وقضاياه الاجتماعية والتحولات القاسية التى طرأت على الأسرة والأجيال الجديدة، وهو ما بدا واضحا فى فيلمه “الفتاة ذات وشم التنين”.

الصوت والضوء

وبين صوت هادئ لكنه حاسم ومخيف، وضوء يهدف للإخفاء أكثر مما يهدف للظهور، يكشف القاتل الذى لا يحمل اسما عَنْ شخصيته وعن صفاته والقوانين التى يسعي بها السيطرة على عالمه، لكن كل مشاهده -تقريبا- جاءت داخلية معتمة، وحتى تلك الخارجية وضع فينشر ومدير تصويره كشافات الإضاءة الخافتة نسبيا بمواجهة “فاسبندر” فبدا مظلما، وهو ما يعكس رؤية المخرج لذلك القاتل الذى يحمل كل ظلام العالم فى داخله، ويتحرك كخفاش فى المساحات المظلمة مـن الشوارع، ولا يترك المكان الذى تطؤه قدماه إلا وهو يحمل جثة أو يترك أخرى.

كان فاسبندر رابضا خلف سلاحه فى المشهد الاول للعمل، يقبع فى مكان مظلم مـن غرفه بمواجهة هدفه الظاهر عبر النافذة فى المبنى المقابل، وبينما يسبح الضحية فى أضواء باهرة، يطل الخفاش القاتل مـن ظلمته عبر عدسة السلاح بعينيه، وينتظر الحركة المناسبة لضحيته التالية، وحين أخطأ أدرك السيناريو القادم، فهي مهنة لا يُسمح فيها بهامش خطأ مطلقا، لذلك سارع بالعودة الي بيته المعزول أيضا عَنْ العالم، فوجد رفيقته فى المستشفى بعد تقدمها لاعتداء وحشى، وهنا بدأ مشوار الانتقام وتصفية شركائه السابقين.

وإذا كانـت وظيفة الإضاءة فى السينما هى توضيح الأشياء لرؤيتها فى المقام الاول، فإن تلك الإضاءة التى تفقد وظيفتها عبر وضع مصادرها فى أماكن تهدف للإخفاء، إنما تنقل الْمُشَاهِدِينَ الي منطقه عدم الراحة، لكنها تشكل مشاعر متضاربة بين التشويق وانتظار زوال الظلمة، وتوقع المزيد مـن الدراما.

اهتم فينشر بالقصة بينما سبق مـن افلام وشكل مـن تفاصيلها الدرامية لوحات سينمائية نابضة بالحياة، خاصة مع البناء المتقن لشخصيات أعماله التى يفضل اقتباسها مـن روايات أدبية. لكن الإضاءة والتعليق الصوتي الذى لم يسرد بقدر ما قام بالوصف؛ صنعا حالة مختلفة عَنْ الأفلام السابقة للمخرج، فقد وضعت الْمُشَاهِدِينَ “على وضع الانتظار” طوال العمل، وكأن صانع العمل لم يجرؤ على السير قدما نحو ذروة درامية.

وباستثناء دقائق قليلة تتوسطه، خلا الفيلم مـن الحوار، واكتفى بالسرد الذى بدا متعاليا على الْمُشَاهِدِينَ، إذ قدم خلاصات تحكي عَنْ قواعد مهنة القتل، وضرورة الالتزام بقواعد عدم الثقة وعدم التعاطف والالتزام بالخطة المتفق عليها وما شابه.

والخلو مـن الحوار فى العمل مبرر تماما، حيـث يتحدث العمل لغة الرصاص والسكاكين وشتى طرق القتل، وبدا الفيلم كأنه “مونودراما” نقلت مـن المسرح الي السينما. اما الاستثناء فجاء فى ضوء عثور القاتل على امرأة شاركت فى الاعتداء على رفيقته، والمناورات التى قامت بها لخداعه ثم قتله لها. وللمرة الثانية يتجاهل صناع العمل فكرة تسمية البشر، فاكتفوا بوصفها باعتبارها امرأة تشبه أعواد تنظيف الأذن نظرا لنحافتها الظاهرة، وجسدت دورها الممثلة ذات الأصل الأسكتلندي تيلدا سوينتون.

الظلام الحقيقي

يكمن خلف كل تلك العتمة التى أخفى بها ديفد فينشر ما يقرب مـن نصف تفاصيل عالمه على الشاشة سؤال قاس عَنْ التحولات التى مرت بها الإنسانية فى القرنين الماضيين على الأقل، فالعالم الذى حرص على إظهاره هو عالم كئيب موحش متوحش يقتل لئلا يقتل، فهل تحول كل شخص على الكره الأرضية الي قاتل محترف عليه ان يتربص فى عتمة الظلام بضحيته ويقتله، فمن سينجو إذا بحياته وحياة أسرته؟

أسئلة قادمة مـن عقل رجل اعتاد على استخدام جريمة قتل واحده -على الأقل- فى كل فيلم مـن أفلامه للتفتيش فى حاضر وتاريخ شريحة مجتمعية مختلفة، ومن ثم إلقاء ضوء كاشف ومبهر على حقيقة غابت لسنوات تطول أو تقصر.

لكنه قرر أخيرا عدم الاعلان عَنْ النصف المضيء مـن العالم إلا فى مشهد النهايه، إذ قُتل الشركاء القتلة، وانضم القاتل (مايكل فاسبندر) الي رفيقته على الشاطئ بعد شفائها لتستمر الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى