منذ دخول خيول نابليون الجامع الأزهر حتـى الان.. كيف ستحدث النهضة العربية والإسلامية؟ | آراء سام نيوز اخبار
شكلت القيم والمبادئ الكبرى، التى مثَّلت غطاءً أخلاقيًا وموجهًا فكريًا للتنوير والحداثة، أحد المقومات التى أسهمت فى انتشار مقولاتها على مستوى العالم، فأصبحت بذلك عنصر جذب وإغراء للنخب والمجتمعات.
وقد كان النموذج الحضاري الحديث، بخلفيته الفلسفية والثقافية والقانونية، يرصد نفسه باعتباره مشروعًا كونيًا، يحمل فى جانب منه قيمًا إنسانية للانتقال بالإنسان والمجتمعات مـن وضعية التقليد، وما ظلت تحكمه مـن أنساق ثقافية واجتماعية الي وضعية ترتقي بالإنسان، فى أنساق ونظم تعترف بكينونته وتمنحه رتبة القداسة فى التَّارِيخُ، مـن اثناء مرتكزات العقلانيّة والحرية والفردانية والديمقراطية والمساواة، وغيرها مـن القيم الرئيسية التى يرتكز عليها مشروع الحداثة بالنسبة للإنسان الفرد والمجتمعات الحديثة أساسًا.
لكن هذا المشروع الذى بشّر الإنسان الحديث بجملة مـن التطلعات، تتكشّف مخرجاته منذ عقود، فى نزعات تدميرية للإنسان والمجتمعات التى تختلف مرتكزاتها الثقافية والقيمية وإراداتها السِّيَاسِيَّةُ عَنْ المنحى الذى ترسمه بعض القوى المهيمنة على أدوات إنتاج الحضارة الي حدود اليـوم، والتي تقود العالم اقتصاديًا وقانونيًا وسياسيًا وثقافيًا.
لعلّ الصراعات والحروب والنزاعات- فى عالم المسلمين ورعاية الاستعمار والاستيطان فى العالم الثالث برمته- كاشفةٌ عَنْ مدى التناقضات التى حملها مشروع التحديث طوال القرون التى مضت، وهي ليست أعراضًا ترتبط بصراع المصالح والنزاعات السِّيَاسِيَّةُ والعسكرية، وإنما تعبّر عَنْ “بَراديغم” يحمل أزمته داخله، وبصيغة أخرى؛ يحمل المشروع معه خطيئة الولادة على مُستوى الجينات التى يتشكل منها.
أين يتجلّى ذلك؟ وما هى تمظهراته على مستوى التَّارِيخُ الحديث والواقع؟ وكيف تؤثر نظرته المعادية للآخر والرافضة له فى بعض تجلياته مع الاستعمار ومناهضة تحرّر الشعوب واستقلالها وسيادتها على العلاقة بين الثقافات والشعوب والحضارات.. وبشكل أدقّ على العلاقة بين الشرق والغرب؟
المجال التداولي العربي الإسلامي والحداثة.. الحاجة الي النقد وضرورات الاستئناف
لا يهم كثيرًا الوقوف على الدلالات اللغوية والاصطلاحية لمفاهيم مـن قبيل التنوير والحداثة، فقد أصبحت شائعة الاستعمال، كَمَا لا يهم الدخول فى توصيف أكاديمي للانتقالات المعرفية التى مرت منها نماذج الحداثة وإرادة التنوير.
إنما تهمنا هنا الجوانب التأسيسية التى تستبطن تناقضات جوهرية فى مشروع الحداثة برمته، وهي الجوانب التى يتفاعل معها العالم العربي والإسلامي، وظلت موضع احتفاء ثقافي وفكري مـن طرف لفيف مـن النخبة والمثقفين، باعتبار ان وسيلة التقدم هى خوض تجربة النقد المتعدد، والانخراط فى العصر مـن اثناء التخلص مـن التراث وكل ما تكتنزه الثقافة العربية، ذلك ان هذه الاخيره تستبطن أزمة ذاتية، ومن ثم ينبغي ان نسلك الطريق السهل لتحقيق التقدم.
لقد انتبه النقاد جيدًا- بعد خسارة يونيو/ حزيران مع الرعيل الثانى مـن رواد الفكر النهضوي العربي- الي التراث كعامل ينبغي الاشتغال عليه، والعودة إليه لنقده فى أفق تجاوزه، ومن ثم يمكن إحصاء عَدَّدَ مـن الدراسات الفكرية والثقافية فى المجال التداولي العربي التى انشغلت بنقد التراث، وهو نقد يتأرجح بين التطرف فى النقد بأدوات أيديولوجية وليست علمية فى الأغلب، ما يؤدي الي إلغائه؛ نظرًا للموقف السلبى المسبق منه، أو النقد المعتدل الذى يعمل على التوليف بين روح العصر، وما يكتنفه التراث مـن جوانب مستنيرة.
لكن ما ينبغي التأكيد عليه ان أغلب هذه الدراسات لم تنشغل نقديًا بالحداثة كثيرًا، أو ان الانشغال بها كان مـن موقع التبني المطلق، دون حوار نقدي حقيقي لها؛ إلا فى بعض الأطروحات الفكرية والفلسفية المعدودة.
أو العكس تمامًا، حيـث كان الانشغال بها مـن منطلق الرفض الكامل لها، بخلفية تحكَّمَ فيها بعدٌ عاطفي على الأغلب، أو خاضعة للسياق المقاوم للغرب المستعمر وقيمه الثقافية، بافتراض الرفض المطلق والتناقض الحاد بين الإسلام والحداثة، وأن الإسلام لا يريد الي تنوير أو تجديد، وأن طريق التقدم فى العودة للإسلام.
وهذا فيه غربة عَنْ العصر فى واقع الامر، كَمَا ان جانبًا مـن دعاة فرضية الرفض الكامل لم تتأسس على جوانب معرفيّة ترصد قراءة نقدية واعية لأزمة الحداثة، ومن ثم تمنح البعد الحضاري الإسلامي إمكانية الاستئناف بما يقوم بعملية جاء خلاقة بين التراث الحضاري الإسلامي المشرق وقيمه، والعصر الحالي.
إن القوة العارية مـن الأخلاق والمتجردة مـن القيم، تصل ذروتها مع معاداة الإنسان والحياة والطبيعة، ثم تبدأ بالتحلل والانهيار، إذ إن التحولات الكبرى فى مسار الحضارات والثقافات والشعوب، كان الوازع فيها أخلاقيًا، ومهما امتلكت الدول أدوات التقنية والتقدم، فإن التجرد مـن الوازع الأخلاقي يعد مؤشرًا لبداية الانحدار
لقد كان الاستعمار للعالم الإسلامي اهمَ العوامل التى غذّت الرفض، وحجبت عملية النقد الواعية لمشروع الحداثة، ومن ثم شكّل القرن العشرون مقاومة مباشرة للاستعمار، فكانت الثقافة واحده مـن أوجه المقاومة والرفض لكل ما يأتي مـن الضفة الاخرى، بما يعني ان الاستعمار يعد عائقًا مـن العوائق التى تحظر عملية التثقيف القائمة على الحوار المتبادل بين ثقافات الشعوب وخصوصياتها الحضارية.
وبالمثل مثّلت الرؤية- التى تشكلت بعد إدخال العالم الغربي لسياقات الحداثة الي العالم العربي والإسلامي- نظرة دونية وإقصائية، وغطاء للاستعمار وتبريرًا له؛ بدعوى الفصل بين العالم المتحضر وغير المتحضر، والحقيقة ان التحضر أبعد مـن الاستعمال السطحي السائد اليـوم، بل إن خطاب التحضر منذ استعمالاته الأولى حمل فى طياته على الأغلب نزعة همجية فى حق الإنسان والحضارة، وظل يفتقر الي النوازع الأخلاقية والإنسانية.
لعلّ الخطاب الرائج على أرض فلسطين المحتلة اليـوم، هو العودة الي هذه السرديات القديمة، والحشد الجماعي بلغة قائمة على المفاصلة التامة، ما يضع الغرب امام اختبار تناقضات فى الفلسفة والنموذج الذى يحكم رؤيته للعلاقات بين الشعوب والثقافات، والنظرة الي الآخر.
عند تأمل هذه النظرة جاء الى الغرب، يتجلى لنا الوجه الحقيقي له وكيف ينظر به للشرق، إذ يعتبر الاستعمار والرغبة فى الهيمنة بأدوات العنف المميت أحد أكثر الأوجه بشاعة التى رافقت مشروع التقدم الحديث. كَمَا انّ السيطرة بالأدوات الناعمة والتحكم فى مصائر الشعوب وخياراتها وتذويب مقدراتها الثقافية والرمزية، تشكل عنفًا معنويًا ورفضًا للآخر وما يستبطنه، بل هى رفض للتنوع والتعددية والاختلاف والسعي لفرض رؤية عالمية واحده، هى رؤية الغرب بكل تأكيد.
هنا يمكن القول حسب حتميات التَّارِيخُ: إن القوة العارية مـن الأخلاق والمتجردة مـن القيم، تصل ذروتها مع معاداة الإنسان والحياة والطبيعة، ثم تبدأ بالتحلل والانهيار، إذ إن التحولات الكبرى وفي مسار الحضارات والثقافات والشعوب، كان الوازع فيها أخلاقيًا، ومهما امتلكت الدول أدوات التقنية والتقدم، فإن التجرد مـن الوازع الأخلاقي يعد مؤشرًا لبداية الانحدار.
اما ما يخص الشرق؛ فإن ما يستبطنه فى واقع الامر على مستوى قيمه الرمزية والثقافية، يشكل باعثًا خلاقًا على الاستئناف النهضوي والحضاري، مستندًا الي العودة الي ذاته الحقيقية وهُويته مع التحلي بروح العصر.
لذا يكون هذا مخرجًا للإنسانية برمتها مـن نزعة التدمير مـن اثناء العدوان المادي على الإنسان والحياة، والتفكيك المعنوي للقيم الثقافية؛ قيم الفطرة التى تنتصر للإنسان وتصون كرامته وحريته وتحقق آدميته، وبذلك يُنشئ الغرب نموذجًا جديدًا، يمكن ان تسهم الاحداث الكبرى فى تعزيزه، والسماح له بالتخلّق على أنقاض التصورات القديمة الحادة للغرب.
قد كانـت القدس وقضية فلسطين باستمرار ملهمة للوعي الحضاري العربي والإسلامي على مدى التَّارِيخُ باستئناف دورةِ الحضارة والإشراق مرة اخريٍ، وتحريرٍ جديد للعمران والإنسان فى المنطقة برمتها. لكن هذه المرة تحمل معها مرآة كاشفة لمأزق الحداثة والتنوير والتقدم المسنود بالقوة المتحللة مـن الأخلاق، اى بينما هو أبعد مـن عالم العرب والمسلمين.
مأزق التنوير والحداثة..السيادة المطلقة للعقل وضمور الحس الأخلاقي
منذ القرن الـ17 حتـى هذه اللحظة الراهنة، كان العقل هو الذى يحكم طريقة التفكير فى أنساق الحداثة والمشروعات التى قام عليها، هذه المشروعات تُنتج نمطًا مـن طريقة التفكير والعيش، ولكن فى الوقت ذاته وضعت هذه المشروعات الدين جانبًا بما يحمله مـن وازع أخلاقي دون ان يكون له اى دور حقيقي فى تشكيل تلك التصورات والفلسفات.
كانـت العقلانية بالفعل تحريرًا مـن قيد القهر الذى كان مضروبًا على الفكر الحر والنقد، لكن فى الوقت ذاته لم تكن هناك الرقابة والحماية الكافية التى تضمن عدم الوقوع فى تطرّفات حادة، حملت معها مشكلات للمستقبل؛ هى ما تعيشه الإنسانية اليـوم مـن آلام لا حصر لها.
هذه الآلام ناتجة عَنْ الوقوع فى المحذور الأخلاقي، حيـث خضـع الإنسان لهاجس التقدم والسيادة على الإنسان والطبيعة مـن اثناء التوظيف المفرط للعقل دون وقاية أو بواعث أخلاقية، تحكم وتضبط هذه القوة التى يملكها، بحيث لا تكون مدمرة للإنسان والطبيعة والعالم الذى نعيش فيه.
وعليه فليس هناك مشكلة فى العقل، بل هو أعدل قسمة بين الناس، ومن المقدسات التى يحوزها المرء، وهو عنصر مـن عناصر التى التفرد التى خُص بها عما دونه مـن الكائنات. لكن الاعتماد عليه وحده وتدمير باقي العناصر الفاعلة فى إنتاج المعنى وتفسير العلاقات ووضع النظم، جعل الإنسان أسير هذه الرغبات، خاضعًا لها، يُنفذ ما تمليه عليه دون رادع.
ومن ثم فإن العقل الذى حرّر جملة مـن المجتمعات فى حقبة زمنية، أدى توظيفه السيئ- وما أنتجه فى مجالات التكنولوجيا والاقتصاد وتبرير حيازة القوة المدمرة وغياب الأخلاق- الي وقوع المجتمعات البشرية تحت الهيمنة والتحكم مع نسق السوق وقيمه التى لا رحمة فيها ولا أخلاق.
مـن هذا المنطلق أصبح عاديًا الحروب وإبادة الإنسان والمجتمعات، مع القدرة على تبرير ذلك. وهذا كان منذ هجرة البيوريتان الي أميركا وإبادة الهنود الحمر بها، ثم استمرار المد الاستعماري والإمبريالي، التى تعد فلسطين آخر الظواهر الاستعمارية المعمرة والتجليات البارزة منذ تلك الحقبة.
وطبعًا قبل ذلك مع الحربين العالميتين اللتين أودتا بحياة ملايين البشر، وهما معًا يمكن عدهما تعبيرًا أصيلًا عَنْ أزمة ناجمة عَنْ بشع فى منظومة التنوير والحداثة، التى جعلت التقدم غايتها دون ان تضع له ضوابط وقيمًا أخلاقية، تجعل “الإنسان المكرّم” فى صلب هذا التقدم.
نهايةًا: إن ما يقع فى السياق العربي والإسلامي منذ ثلاثة قرون مستمرة مـن الاستعمار- منذ ان وطِئت خيول نابليون الجامع الأزهر الي حدود اللحظة الراهنة- هو فى واقع الامر صراع على أرضيتَين ونموذَجين، يجسد فيهما الاستعمار القوة الخشنة، يقابله رفض مستمر وممانعة للتطويع والخضوع بمختلف أشكال المقاومة.
مـن جانب اخر، يسعي الغرب التحكم بالأدوات الناعمة، مـن اثناء تفكيك المركب الثقافي الحضاري وإحداث انقسام على مستوى الوعي. وكان دائمًا السياق العربي فى اشتباك مستمر مع تجليات التنوير والحداثة، التى تأتي أحيانًا على ظهر دبابة، وأحيانًا أخرى مـن اثناء وسائط ثقافية.
هذه التناقضات الكامنة فى النموذج الغربي- بين رغبته فى الهيمنة واستخدام عنصر القوة والسيطرة مـن ناحية، وبين رغبته فى الحفاظ على صورته ومقولاته المستنيرة فى حقوق الإنسان والحريات مـن جانب اخر- تجعل فلسفة التقدم الحديثة بعيدة كل البعد عَنْ البواعث الأخلاقية والقيمية وتجعله يقابل أزمة حقيقية.
هذه الأزمة التى يواجهها تمنحنا قوة فى نقد هذا النموذج وتشكك فى شرعيته بالكامل وفي صدقه اثناء يتعلق الامر بالشرق الحضاري، الذى يحاول للاستئناف منذ ثلاثة قرون.
السياق الحالي، والمشهد الحالي الذى نواجهه، وهو ضوء انهيارات أخلاقية وفلسفية وقيمية كبرى، يجعلنا ذلك امام ضرورة العودة الي الذات العربية والإسلامية..عودة بنقد مزدوج واستلهام مـن مختلف التجارب والمنطلقات مـن اجل المستقبل؛ مستقبل الإنسانية برمتها فى حِضْن الأخلاق، وليست خارجة عنها أو متنصلة منها.