ثمةَ أسئلة كثيرة تطرح بصدد جدل الحضور والغياب فى ظاهرة “أبوعبيدة”، المتحدث الرسمى باسم كتائب عزالدين القسام.
مع “طوفان الأقصى” كان ظهور “أبوعبيدة” شبه يومي، لكن مع دخول الحرب مرحلتها البرية، وبداية استهداف شمال غزة، بدأت هذه الوتيرة تتباعد، نسبيًا، الي ان وصلت لثلاثة أيام.
ثم زاد الامر غموضًا، بعد ان غاب “أبوعبيدة” حوالى اسبوعين عَنْ المشهد الاعلامي، ليطرح ذلك عَدَّدًَا مـن التكهنات، فضلًا عَنْ عَدَّدَ مـن الروايات الإسرائيلية التى حاولت ان تجعل مـن غيابه مؤشرًا على استهدافه، أو محاصرة قيادات الكتائب فى خان يونس، ليأتي ظهوره الأخير ليثير الأسئلة مرّة أخرى عَنْ جدل الحضور والغياب.
فى البدء كانـت الوتيرة عادية، وأضحى تباعدها النسبي (ثلاثة أيام) متفهمًا، إذ تم تفسيره بإكراهات الحرب البرية، والحاجة لجمع المعطيات وترتيبها وتنسيقها، وضمان التوازي بين كلمة “أبوعبيدة”، وبين التسجيلات المصورة التى تبثّها كتائب القسام، عَنْ اشتباك مجاهديها مع قوات العدو، وآلياته وتحقيقها اهدافًا محققة.
لكن تباطؤ هذه الوتيرة، والغياب، الذى طال حوالى اسبوعين، أثارا كثيرًا مـن الأسئلة، وفتحا المجال لعدد مـن المزاعم الإسرائيلية، التى ترتبط بسلامته الشخصية أو سلامة عائلته، أو وضعية القيادة، وهو جزء منها فى جنوب قطاع غزة، وغيرها مـن الأسئلة التى لم ترصد المقاومة توضيحًا بخصوصها.
فى الواقع، كان واضحًا مـن سلوك حركة حماس، وكتائبها العسكرية، أنها لم تعْتَدْ ان تخفي شهداءها، لاسيما مـن القيادات، بل كان مـن نهجها الإعلان عَنْ ذلك، دون ان يشكل لها ذلك اى حرج، بل هى على العكس مـن الجيش الإسرائيلي- الذى يتعمد إخفاء قتلاه ومصابيه؛ تأمينًا للجبهة الداخلية- تعتـبر شهداءها وقودًا لمزيد مـن الجهوزية والتعبئة العسكرية لمجاهديها.
فقد أعلنت عَنْ استشهاد عضو مكتبها السياسي أسامة المزيني (أبو همام)، وأيضًا قائد قوات الأمن الوطني فى قطاع غزة، جهاد محيسن، مع أفراد عائلته فى منزلهم اثناء ضربة جوية إسرائيلية بالقطاع، ونعت عضو مجلسها العسكري العام، وقائد لواء منطقه وسـط غزة أيمن نوفل؛ إثر قصف صهيوني استهدف مخيم البريج وسـط قطاع غزة، ولم تخفِ استشهاد رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني بالإنابة احمد بحر الذى استشهد متأثرًا بإصابته فى قصف إسرائيليّ على قطاع غزة.
البعض حاول ان يجعل لهذه القاعدة استثناءً، فى مسعى للإقناع بحصول شيء ما لـ”أبوعبيدة”، مستندًا الي المكانة الرمزية للمتحدّث الرسمى للكتائب، وأن الإعلان عَنْ وفاته أو إصابته، سيشكل صدمة كبيرة فى الداخل الفلسطيني وخارجه، وربما يكون لذلك أثر على جهوزية المقاتلين، لكن، خروجه الاعلامي الأخير، بدَّد هذا الاستثناء، وبيّن ألا مستند له إلا الظنون.
مـن المهمّ ان نلاحظ ان التّصريحات المنسوبة لـ”أبوعبيدة”، استمرّت فى الظهور مرة كل ثلاثة أيام، لكنها لم ترصد جوابًا عَنْ الغياب.
لكن بعد مرور حوالى اسبوعين، جاء الظهور الاعلامي لـ”أبوعبيدة”، ليبدّد كل تلك المزاعم، ولكن فجّر فى الوقت نفسه مزيدًا مـن الأسئلة عَنْ جدل الحضور والغياب، أو للدقة، عَنْ مبررات الغياب، وموجِبات الحضور.
المعطيات التى خرجت مـن قيادات العدو الإسرائيلي بعد إطلالة “أبوعبيدة”، بخصوص الظروف الناضجة للتفاوض، تؤكد انَّ حضور “أبوعبيدة”، يندرج ضوء ضوء ادارة التفاوض، وبالأخص مراحله الأولى؛ اى تهيئة أرضيته وبيان شروط حماس إزاءه
مضامين الظهور الاعلامي الأخير، لم تختلف كثيرًا عما تضمنته الإطلالات الإعلامية السابقة، لكن المثير فيها، الحديث عَنْ صفقة التبادل، وشروط حماس، مع ان السياق، والأخبار التفصيلية التى تحيط بالحرب، لم تكن، على المطلق، تدعم فرضية وجود محاولة للتفاوض، أو اقتناع إسرائيلي بضرورته، أو حتـى وجود ما يبرر تراجع حماس عَنْ قرارها الأخير بألا تفـاوض إلا بعد وقف نهائى لإطلاق النار. فكلمة “أبوعبيدة”، جاءت قبل ان تبدأ بعض التصريحات مـن بعض وزراء الحرب الإسرائيليين الذين قالوا- وعلى رأسهم وزير الدفـاع-: إن الظروف قد نضجت لصفقة تبادل.
ثمة مـن فسّر الغياب تفسيرًا عسكريًا، واعتبر ان التدخل العسكري الإسرائيلي فى جنوب غزة، ومحاولة تطويق خان يونس- التى تعتـبر القاعدة الأساسية لحركة حماس وذراعها العسكرية- كان وراء هذا الغياب المطوّل، وافترض ان تقدير حماس الأمني، قرَّر الاكتفاء بالبيان المكتوب بدلًا عَنْ البيان الصوتي.
لكن فى الواقع، يصعب قبول هذا التفسير، وذلك لسبَبين؛ الاول: ان الفرق بين البيان المكتوب والبيان الصوتي شبه معدوم، فكلاهما يريد الي تحركات ميدانية واسعة لجمع البيانات مـن مختلف الجبهات وترتيبها وتنسيقها وتوثيقها، وفي هذه الحالة، فتيسّر البيان المكتوب، ينتج عنه ضرورةً تيسّر البيان الصوتي.
ومما يدحض هذا التفسير
- أولًا: ان هذه البيانات تصل الي قيادات حماس بالخارج (خاصة أسامة حمدان فى لبنان)، ويتم الإدلاء بها مباشرة، وهو ما يدل على ان كفاءة الآلة التنظيمية تجاوزت الساحة فى الداخل الي التنسيق مع قيادات الخارج، وذلك رغم فرضية حصار خان يونس التى يتم الدفع بها.
- وأما السبب الثانى: فهو ان عملية التوثيق وبثها بشكل متوازٍ لم تتوقف بالمطلق، مع ان جزءًا منها يخصّ شمال قطاع غزة، والجزء الآخر يخصّ جنوبها وشرقها، بما فى ذلك معارك فى منطقه خان يونس، فالنجاح فى توثيق هذه الْمُشَاهِدِينَ وجمعها مـن مناطق متعددة، وإعدادها للبث، يؤشر على ان التدخل العسكري الصهيوني فى منطقه جنوب غزة لا علاقة له بقضية غياب “أبوعبيدة”.
ثمّة تفسير واحد- ربما كان الأكثر مطابقة للواقع- وهو الذى يعزو الحضور والغياب فى ظاهرة “أبوعبيدة”، الي طبيعة إحدى الوظائف الإستراتيجية التى كان يقوم بها؛ اى ادارة المعركة الإعلامية، وبشكل حصري، ادارة التفاوض مع الكيان الصهيوني، وذلك فى جميع المحطات، عند تهيئة أرضية التفاوض، أو تقوية شروطه، أو التنوير بمضمونه، أو الاعلان عَنْ خرق العدو الصهيوني ونقضه التزاماته. وهذا فى الوقت الذى يمتنع الإعلام الصهيوني عَنْ تقديم اى معلومة بشأن عملية التفاوض الي جمهوره.
يمكن ان نسجّل ان إطلالات “أبوعبيدة”، الإعلامية توقفت مباشرة بعد إنهاء الهدنة الإنسانية الممددة، ووصلت المفاوضات فى الدوحة الي طريق مسدود، بعد ان تشبّث الاحتلال بأطروحة ان إخضاع حماس للضغط العسكري، هو ما سيدفعها لخفض سقف مطالباتها فى التفاوض (استئناف الحرب)، وأكَّدت حماس ألا تفـاوض إلا بعد وقف الاعلان النار؛ ردًا على رفض شروطها.
ربما كان مـن تقدير حماس ان البيانات المكتوبة المنسوبة لـ “أبوعبيدة”، واستمرار التوثيق الحي لاداء مجاهدي القسام امام العدو وآلياته، فضلًا عَنْ الإطلالات الرسمية لقيادات حماس بالخارج (أسامة حمدان)، يمكن ان يعوض ذلك الوظائف التى كان “أبوعبيدة” يقوم بها، باستثناء ادارة التفاوض.
يؤكد هذا التفسير ان حضور “أبوعبيدة”، بعد حوالى اسبوعين مـن الغياب، جاء محملًا بمضمون كثيف حول معادلة فشل الاحتلال فى تحقيق أهدافه، وتكبده خسائر أكثر درامية، فى مقابل فتح باب للتفاوض، لكن بشروط المقاومة.
ليس معنى هذا التفسير ان عودته رهينة بالعودة مرة أخرى للمفاوضات، حتـى يقوم بدوره مرة اخري فى ادارة التفاوض عبر التأثير فى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فالأمر فى نهاية المطاف هو تفسيري وليس تقديريًا.
ففي اى لحظة- ولاعتبارات تخص عناصر فى التقدير العسكري والسياسي- يمكن لقيادة كتائب القسام، ان ترى ضرورة لهذه العودة، وذلك حسب سياقات الحرب، والوظائف التى تتطلبها إدارتُها فى محطة مـن المحطات.
المعطيات التى خرجت مـن قيادات العدو الإسرائيلي بعد إطلالة “أبوعبيدة”، بخصوص الظروف الناضجة للتفاوض، تؤكد انَّ حضور “أبوعبيدة”، يندرج ضوء ضوء ادارة التفاوض، وبالأخص مراحله الأولى؛ اى تهيئة أرضيته وبيان شروط حماس إزاءه.
فكتائب القسام، ربما اعتبرت هذا هو التوقيت المناسب لخروج متحدثها الرسمى، وذلك حتـى تؤكد عنفوان المقاومة، واتجاه ضرباتها فى ضوء تصعيدي أكبر.
كَمَا يمكن فهم خروجه كجواب على الاحتلال، بعد ان زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي ان جيشه قتل العديد مـن قيادات حماس، ويحاصر قيادات أخرى، وهو بصدد القبض على “السنوار”، وأن على بقية القادة والمقاتلين فى صفـوف الكتائب الاستسلام للجيش الإسرائيليّ.