بينما كان قادة العالم يجتمعون فى مؤتمر “كوب 28” (قمّة المناخ) فى دبي يُناقشون كيف يُمكن تقليل انبعاثات الكربون وبصمتنا البيئية على الكوكب، كان الجيش الإسرائيلي مشغولا بتحويل غزّة الي مكان غير قابل للحياة، ليس باستهدافه المدنيين الأبرياء وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم فقط، وإنما مـن اثناء استهداف المنشآت البيئية مثل منشآت الطاقة المتجددة ومنشآت تحلية مياه البحر والآبار ومحطات معالجة الصرف الصحى، يقصف ويدمر هذه المنشآت ضاربا بعرض الحائط كل “القيم البيئية” التى تُفريق بها “البعثة الإسرائيلية” الي مؤتمر المناخ.
استهداف “الطاقة” المُعززة للصمود
فى هذه الحرب كان للمستشفيات حضور بارز، فاستهداف المستشفيات كان هدفا مُعلنا وواضحا، وبالتالي كان كل ما يعزز صمود هذه المستشفيات مستهدفا مثل لوحات الطاقة الشمسية فوق أسطح المستشفيات، بغض النظر عَنْ أثرها فى تقليل الانبعاث الكربونية التى تنعقد مـن أجلها مؤتمرات المناخ.
والطاقة الشمسية فى هذه الحرب كانـت مستهدفة بشكل أساسي ومقصود، فمع الحصار على غزة (منذ 2007) ثم مع تشديده بشكل خانق مع بدء حرب طوفان الأقصى، كان الاعتماد على الطاقة الشمسية يتعاظم بشكل لافت، فبين العامين 2015 و2017 ارتفع عَدَّدَ المواقع التى تنتج الطاقة الشمسية مـن 591 موقعا الي 3456، كَمَا يؤكد الخبير البيئي جورج كرزم فى مقالته التى كتبها فى يونيو/حزيران 2022 وجعل عنوانها “الخلايا الشمسية تنتج ربع الكهرباء فى غزة وتتحدى النفاق المُناخي الإسرائيلي”[1].
ووفقا لدراسة حديثة مـن معهد “سي إس آي إس” (CSIS) عَنْ الطاقة الشمسية فى وقت الحرب، فإن استغلال الطاقة الشمسية فى قطاع غزّة حَقَّق أرقاما لافتة قبل الحرب، فقد جاء عَدَّدَ مواقع إنتاج الكهرباء مـن الطاقة الشمسية الي 8760 فى عَامٌ 2019، وقُدّر العدد قبل حرب عَامٌ 2023 بنحو 12400 سطح مُنتج للكهرباء مـن الطاقة الشمسية، ووفقًا للتقدير فإن ثُلث المواطنين الغزيين ونحو 50% مـن أصحاب المصالح التجارية يعتمدون على الطاقة الشمسية[2].
وفي الحرب ومع انعقاد قمه المناخ أصبح النفاق المناخي الإسرائيلي واضحا وضوح الشمس، فكثيرة هى الصور التى انتشرت لاستهداف ألواح الطاقة الشمسية، وأكدت ذلك تحليلات لصور الاقمار الصناعية مـن تاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثانى 2023 لفحص وضع أكبر 29 سطحا لإنتاج الكهرباء مـن الطاقة الشمسية، فقد اتضح أنه استُهـدف 17 منها (60% منها) ودُمرت بشكل جزئي أو كلي بحجة أنها تنتج طاقة لأهداف عسكرية[3]، بينما هى فى الواقع موجودة فى منشآت مدنية مثل المستفشيات، وتساهم فى تعزيز صمود الغزيين ورفضهم لمخططات التهجير القسري، والأكيد أنه مع انتهاء الحرب يُمكن فقط ان نعلم حجم الدمار الذى لحق بنظم الطاقة الشمسية فى غزة.
محطات التحلية وشبكات المياه
لم يقتصر الدمار على الطاقة الخضراء، فحتى المياه التى هى حق أساسي لكل إنسان كانـت سلاحا هذه المرة مثل العديد مـن المرات، فقصف المنشآت المائية واستهدافها ليس جديدا على جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ففي كل عدوان على غزّة كان يتم استهداف المنشآت المائية وبشكل “مقصود”، بل حتـى قبل حرب 2008 وتحديدا فى 4 ديسمبر/كانون الاول 2008 نشر معهد جنيف للسلام بأن “الماء تحول الي سلاح فى صراع الشرق الأوسط[4]”، ومع اندلاع حرب 2008 تفاقم الوضع أكثر مما جعل الوضع مع نهاية الحرب كارثيا بما يتعلق بعملية التخلص مـن المياه العادمة فى قطاع غزة، والإمداد بمياه الشرب[5].
كَمَا كان استهداف المنشآت المائية حاضرا فى عدوان 2012 و2014 و2021 بشكل لافت، ففي 2012 قُصفت 12 بئرا مـن آبار المياه[6]، وفي 2014 دُمر اثناء العدوان 9 آبار مياه وعشرات الخطوط وشبكات المياه فى المنطقة الشرقية مـن المدينة. وأكدت بلدية غزة حينها بأنه كان استهداف مُتعمدا[7]، كَمَا أشار د. أمل صرصور فى دراسة عَنْ الآثار البيئية للعدوان بأن 70% مـن المنشآت المائية تضررت[8]. وفي عدوان 2021 نشرت منظمة يونيسيف تقريرا يُفيد بأن 50% مـن مجموعه المياه تضررت اثناء العدوان وأن نحو 800 ألف شخص لم يكن بمقدورهم الحصول على المياه مـن الشَّبَكَةُ بسـبب الأضرار الكبيرة التى لحقت بالآبار والخزانات الجوفية ومحطات تحلية المياه[9].
وقبل حرب 2023 بُذلت جهود دولية وفلسطينية كثيرة مـن اجل إصلاح وتحسين الوضع المائي فى غزّة، حتـى جرت محطات تحلية مياه البحر مثل محطة التحلية فى خان يونس التى كانـت مـن الأهداف الأساسية للتدمير الي جانب تدمير 50% مـن الآبار الصالحة للاستخدام مثل بئر أبو حصيرة وبئر سيفة وبئر غبن ومعظم آبار منطقه جباليا، كَمَا دُمر خزّان المياه فى تل الزعتر ودُمر 30 كيلومترا طوليا مـن شبكات المياه والصرف الصحى، بالإضافة الي محطة عامر للضخ ومنشآت كثيرة أخرى ما زالت تُدمّر فى اثناء هذه الحرب المستمرة.
وللتعبير عَنْ حجم المأساة فى قطاع المياه، يكفينا ان نَذكر ونُذكّر بأن حصة الفرد مـن المياه للفرد فى غزة وصلت الي ما بين 2 و3 لترات يوميا، علما بأن النسبة الموصى بها عالمـيا هى 100 لتر يوميا، وربما أكثر القراء يستهكلون أكثر مـن ذلك، والمصيبة ان 97% مـن المياه ملوثة[10].
استهداف التُربة
لا يقل استهداف التربة خطورة عَنْ استهداف الطاقة والمياه فى غزة، فالتربة بالنسبة للمزارعين الغزيين هى مصدر المعيشة والرزق وهي دون شك مصدر الغذاء، وكل دمار فى التربة هو دمار فى إنتاج الأرض.
كَمَا ان الفوسفور الأبيض المحرم دوليا الذى يستخدمه الجيش الإسرائيلي فى غزة وفقا لمنظمات حقوق دولية -مثل هيومان رايتس ووتش- يساهم فى دمار التربة والبيئة بشكل كثير، ويؤدي الي حروق للبشر. وليس الفوسفور الأبيض وحده، فمع الحرب والقصف المهول الذى يتعرض له قطاع غزة، هناك عناصر كيميائية تتسرب الي التربة الزراعية مثل “التنغستن” و”الزئبق”. ووفقا لدراسة نشرتها مجموعه أبحاث الأسلحة الجديدة (NWRC) أجريت على التربة فى منطقه بيت حانون عَامٌ 2009، وُجد ان عنصر التنغستن يوجد بأكثر مـن 20 ضعفا مـن المستوى المتوقع فى التربة، كَمَا ان نسبه الزئبق كانـت موجودة بأكثر مـن 8 أضعاف المستوى المتوقع[11].
ويُعد “الصرف الصحى” أحد أكبر الملوثات للتربة والمياه والبيئة، فبعد قطع الوقود عَنْ مرافق معالجة الصرف الصحى واستهداف خطوط الصرف الصحى، فإن هذه المياه الملوثة بكل ما فيها مـن جراثيم وميكروبات تساهم فى نشر الأمراض والأوبئة، وهو ما قد يُضاعف مـن حجم آثار الكارثة البيئية، فحتى نتنياهو نفسه اثناء وجد معارضة شديدة عندما سمح بإدخال كمية مـن الوقود الي غزة، اعلن إنه يخشى مـن إمكانية انتشار الأوبئة[12]، ودون شك كان يقصد اصابه جنوده بهذه الأوبئة أو ان تصل الي المناطق التى يسيطر عليها الاحتلال.
الحقيقة التى يتناساها كثير مـن “الخبراء الإسرائيليين” الذى يُغمضون أعينهم عَنْ هذا الدمار، وربما يُباركونه، ان هذا الدمار لا يلبث كثيرا حتـى تصل آثاره الي خارج حدود “المعارك”، فالبيئة لا تعرف الحدود السِّيَاسِيَّةُ والعسكرية، وعندما تُدمر البنى التحتية للصرف الصحى فى غزّة وفي مستشفياتها، فإن الصرف الصحى سيتسرب مع مياه الأمطار والفيضانات الي الوديان وصولا الي البحر، ومن هناك ستجد كُل الملوثات والجراثيم وحتى النفايات طريقها الي الشواطئ الإسرائيلية التى كانـت تعاني أصلا مـن التلوث (مثل شاطئ زيكيم) قبل 7 أكتوبر/تشرين الاول[13]، فكيف به بعد تدمير منشآت الصرف الصحى؟
هذا الكلام يؤكد ان الذى يُحاول تدمير “البيئة” فى غزّة، فإن آثار الدمار ستصله عاجلا أم آجلا، ومن تجوّل على شواطئ حيفا الجنوبيّة بعد العواصف التى كانـت اثناء شهر نوفمبر/تشرين الثانى لا بُد وأنه شاهد بعض “النفايات” التى وصلت مـن غزة، وهذه دليل آخر على ان “التلوث” لا يعرف الحدود، سواء أكنا نراه ونلاحظه أم لم يكن مرئيا وملحوظا.
الأكيد أنه وحتى الان، لا يُمكن ان نقدر حجم الضرر البيئي لهذه الحرب التى دُمر فيها كُل شيء فى مُحاولة لجعل أرض غزة غير قابلة للحياة. فبالتوازي مع استهداف البشر واستشهاد أكثر مـن 20 ألفا وجرح أكثر مـن 50 ألفا، فإن كل ما يمكن ان يعزز صمود الغزيين فى أرضهم استُهـدف.
إن استهداف المنشآت البيئية مثل منشآت المياه والطاقة وحتى تدمير التربة لم يكن عشوائيا وعارضا، بل مقصودا ومتعمدا، وهذه جريمة حرب ليس بحق أهل غزة وفلسطين فحسب، بل بحق البيئة والمناخ. وكان الأحرى بقمّة المناخ (كوب 28) ان تُكرس مـن وقتها لهذه الجرائم البيئية عوضا عَنْ الشعارات البيئية الفارغة. وكما تقول الناشطة البيئية غريتا تونبيرغ “لا عدالة مناخية فى أرض محتلة”.
______________________________
المصادر:
- كرزم، جورج 2022: رغم الحصار الخلايا الشمسية تنتج ربع الكهرباء فى غزة وتتحدى النفاق المناخي
- تودمان، ويل 2023 وزملاؤه: Gaza’s Solar Power in Wartime
- تودمان، ويل 2023 وزملاؤه: Gaza’s Solar Power in Wartime
- موقع swissinfo.ch: “الماء تحول الي سلاح فى صراع الشرق الأوسط” نُشر بتاريخ 4 ديسمبر 2008
- موقع دويتشة فيله: قطاع غزة.. تلوث فى مياه الشرب ونقض فى الموارد المائية نُشر بتاريخ 28/8/2009
- موقع أونروا – غزة مكان ملائم للعيش 2020 ؟ : نُشر بتاريخ 28.8.2012
- موقع دنيا الوطن – بلدية غزة: الاحتلال استهدف مصادر المياه فى غزة بشكل متعمد: نُشر بتاريخ 5/8/2014
- صرصور، أمل 2014: Impact of the last Israeli Military Operation on the Vital Environmental Sectors in Gaza Governorates, 2014
- يونيسيف: تقرير منشور بتاريخ 21.5.2021
- هيئة ACAPS، تقرير عَنْ المياه فى غزة اثناء الحرب نُشر بتاريخ 13/12/2023
- هيئة NWRC فى تقرير عَنْ تلوث التربة فى غزة – نُشر 17/12/2009
- موقع والّا الإسرائيلي: تقرير “نتنياهو يرفض الادعاءات عَنْ إدخال الوقود الي غزة: “بدونه سيكون مـن الصعب مواصلة القتال” منشور بتاريخ 17.11.2023
- موقع زمان الإسرائيلي: تقرير بعنوان “كارثة بيئية فى اثناء الحرب: مياه الصرف الصحى تتدفق مرة أخرى مـن غزة الي شواطئ إسرائيل” نُشر بتاريخ 16/10/2023