اشتُهرَ العديد مـن قصص النضال والكفاح امام نظام الفصل العنصري فى جنوب أفريقيا، وكان أشهرها عملية هروب ثلاثة سجناء سياسيين مـن سجن بريتوريا عَامٌ 1979، بمساعدة المناضل المخضرم دينيس غولدبيرغ؛ فقد استغرق التخطيط للهروب اشهرًا، بينما كل دقيقة قد جُبلت بالبكاء والألم والأمل.
ومع انّ لكل حالة احتلال ونضال خصوصيتَها، إلا انّ هناك دروسًا مستفادة مـن عملية الهروب. رغم ما تزخر به الحادثة مـن تفاصيل عملياتية كثيرة ومعقدة، ومن إقدام وجرأة، وعبقرية وبراعة، فإنّ بين طياتها درسًا سياسيًا هامًا، يمكن الاستفادة منه فلسطينيًا؛ يتجسد فى ادارة العلاقة بين السجناء الثلاثة، وبين المعتقَل السياسي العريق دينيس غولدبيرغ، الذى خالفهم فى منهجيتهم وفكرتهم فى الهروب.
“الهروب مـن بريتوريا”
كتب أحد منفذي عملية الهروب – وهو “تيم جينكين”- قصة حول الحادثة بعنوان: “مـن الداخل الي الخارج: الهروب مـن سجن بريتوريا المركزي”، وصدرت الطبعة الأولى عَامٌ 1987، ومن ثم تعددت الطبعات، وبالاعتماد على هذه الرواية أُنتِج فيلم باسم “الهروب مـن بريتوريا” عَامٌ 2020، نسبه الي السجن ذي الإجراءات الأمنية المشددة، والواقع فى مدينة بريتوريا، وتقع المدينة فى الجزء الشمالي مـن مقاطعة غوتنغ فى جنوب أفريقيا، وتعتبر مـن العواصم الثلاثة الرئيسة للدولة.
تبدأ القصة عَامٌ 1978، حيـث ينخرط اثنان مـن البيض مـن جنوب أفريقيا بمناهضة نظام الفصل العنصري، وهما: “تيم جينكين” و”ستيفن لي”، على إثر ذلك قبض عليهما وحُكم على “جينكين” بالسجن لمدة اثني عشر عَامًٌا، وحُكم على “لي” بثمانية أعوام، ووُضِعا فى سجن “بريتوريا”، ودون اى تردد، وبعد أيام مـن سَجنهما، اتخذ السجينان قرارًا بالهروب، وبدأا بوضع خُطتهما لينضم لهما سجين ثالث، وهو الناشط المصرى المولد، أليكس مومباريس.
فى بداية الخُطة التقى السجناء الثلاثة بمناضلين قدامى، أشهرهم دينيس غولدبيرغ، وهو سجين سياسي حكـم عليه أربعة أحكام بالسجن المؤبد؛ لعمله السابق امام الفصل العنصري. وبلغة السجناء الفلسطينيين، كان هو ونيلسون مانديلا، ووالتر سيسولو “ابناء قضية واحده”.
اختلف غولدبيرغ مع السجناء الثلاثة فى بداية الامر، ونصحهم ان يقضوا مدة حبسهم بكرامة “كسجناء رأي”، وتجنب أية خطوات قد يؤدي فشلها للإضرار بالسجناء كافّة.
ولكن بعدما فشل غولدبيرغ فى منعهم، ووصل لقناعة ان الشبان الثلاثة مصرون على خيارهم، تدخل بطريقة إيجابية نحو عقلنة الهروب، وتعامل معهم بحكمة. وذلك مـن اثناء مجموعه مـن المحاور:
الاول: أنه منحهم بعضًا مـن تجاربه، فلم يحتكرها، وجنّدها لصالحهم، وأخبرهم عَنْ العلاقات التى تحكم السجناء، وعن ادارة السجن، ومواطن قوتها وضعفها؛ بمعنى أنه لم يتركهم ليكونوا ضحية قلة الخبرة والتجرِبة بالبيئة الاعتقالية، ليوفر عليهم الزمن ويجنّبهم الفشل. مدركًا ان الثلاثة قد أصروا على قرارهم، فيجب ان تنجح تجربتهم.
الثانى: لم يستخف غولدبيرغ بالسجناء الثلاثة، فهو صاحب التَّارِيخُ النضالي العريق، ووَفق الوصف الفلسطيني، “صاحب الطلقة الأولى”، وهو رفيق “الزعيم” نيلسون مانديلا، وهو ابن تنظيم “أم الجماهير”، ولديه المناصرون الكُثر فى دَاخِلٌ المعتقل وخارجه.
استقلالية الطريق
يرى غولدبيرغ، ان كل الفرقاء تحت حكـم ادارة نظام الفصل العنصري، الذى لا يفرق بين أبيض وملوّن، فكلاهما سيان بالنسبة له. وأن لا مكتسبات كبيرة دون الحرية سيخسرها الفرقاء فى السجن إن أقبل أحدهم على خياره.
ورأى أنه بغض النظر عَنْ نتيجه خطة الهروب، فلن يكون هناك فرق فى ردة فعل ادارة السجن مـن حيـث القمع سواء أفشلت الخطة بعد اكتشافها، أم اكتُشِفت بعد نجاحها. فالفرق بين السيناريوهَين، نجاح الخطة، وليس ردة فعل ادارة السجن.
الثالث: لم يقم “الحكيم” غولدبيرغ بإجراءات ينتصر مـن خلالها لرأيه، ولم يلجأ لسلطته فى السجن بتحريض السجناء على الثلاثة، ولم يناجزهم فى الشرعية والتمثيل، فالنضال والكفاح هما اللذان يمثلان المظلومين، ولم ينسج رأيًا عَامًٌا ضدهم، ولم يستخدم سلطته المعنوية والمادية فى قمعهم؛ بحجة الإضرار بالمصالح العليا.
فلا مصلحة عليا سوى الحرية، فهم مـن أجلها فى السجن. وكلهم أمل بنيلها. ولم يفشل مخططهم، بل تبيّن مـن اثناء الفيلم والقصة المكتوبة وروايات مـن عاصروا الحدث، حرص غولدبيرغ كأب على أبنائه، فقد خلق مسافة أمان بينه وبينهم. وعلى رغم خلافه معهم، فإنهم ظلوا مطمئنين له، ومن جانب اخر فقد حافظ هو أيضًا على استقلالية مساره. فغولدبيرغ صاحب رؤية، يحاول لتحقيقها دون الإضرار بمسارات الآخرين.
الرابع: أدرك غولدبيرغ ان الهروب سيكون له تكلفة على الحركة الأسيرة؛ لأنّه سيؤدي الي حملة قمع شديدة جاء الى ادارة السجن، ورغم ذلك، ساعد فى تأمين بعض لوجستيات الهروب، وتواصل مع رفاقه فى حزب المؤتمر الوطني؛ لترتيب سيارة الهروب وتفاصيل أخرى. وبينما كان الهاربون الثلاثة فى طريقهم للخروج، عمل غولدبيرغ على تشتيت انتباه السجّانين، وبالذات مديرهم، ليتمكن الثلاثة فى النهايه مـن الفرار الي الدول المجاورة بنجاح.
مقاربة واتزان
مما سبق نرى أنه وبرغم الخُطة المحكمة للهروب، والعمل الدؤوب للسجناء الثلاثة، والتحايل على الصعوبات الجمة، والأداء البطولي، إلا ان غولدبيرغ يعتبر البطل الرابع، فما كان للخطة ان تنجح لولا مقاربة غولدبيرغ واتزانه. فلو اختل هذا الاتزان لربما فشلت خطة الهروب المعقدة المعتمدة على الحيل التراكمية، التى لو فشلت إحدى حلقاتها لانهارت الخطة بمجملها.
وبعد إتمام كل حلقات الخطة، وإتمام الثلاثة صنع المفاتيح الخشبية التى تستطيع فتح أقفال أبواب السجن، وقبل تنفيذ خطة الهروب بلحظة، ذهب الثلاثة لغولدبيرغ ومجموعة مـن أتباعه، يعرضون عليهم الهرب معهم، فرفض؛ مستندًا الي رؤيته فى ادارة الصراع مع ادارة السجن، والتي تنسحب على إدارته للصراع مع نظام الفصل العنصري، وهي أنه يميل للتروّي، وأن النضال حتـى ينجح ويحقق نتائـج جوهرية، يريد لصبر واستيفاء الظروف المجتمعية والدولية الملائمة، وأن يتحقق للمجتمع جهوزية النضال مـن اجل التحرير، ضوء وقته الطبيعي.
بينما ان الثلاثة، يرون انّ اىّ انتظار سيراكم المزيد مـن المعيقات والمعضلات الاجتماعية، وسيقوّي أكثر وأكثر نظام الفصل العنصري، وسيفوّت الفرص التاريخية التى يمكن ان تحقق خرقًا هامًا يمكن البناءُ عليه.
شعور بالنصر
وبعد الهروب ولحظة اكتشاف مدير السجانين لذلك، أصيب بصدمة شديدة ومفزعة. فقد جرى كل شيء على نقيض ما خلقه نظام السجن. فقد كان يتخيل أنه متفوق على السجناء بأدوات الحصار والاعتقال، وأنظمة المراقبة والتحكم. واعتقد ان نظامَ التأديب – سواء مـن اثناء هندسة السجن أم مـن اثناء الإجراءات- قد هزمَ وطوّعَ وعي السجناء، وخلقَ منهم شخوصًا رضيت بالعبودية. ولربما اعتبر مدير السجانين أيضًا أنهم قد زرعوا خلافًا بين السجناء سيُفشل اى محاولة هروب أو عصيان بمجرد ان يختلف فيها فريق مع الآخر.
واجه غولدبيرغ صدمة ادارة السجن بضحكة هستيرية عبّرت عَنْ شعوره بالنصر، فنصرُ فريق اختلف معه اعتبره نصرًا له، وعبّرت أيضًا عَنْ نجاح مقاربته، وعن خسارة معنوية ومادية ألحقوها بإدارة السجن.
هرب السجناء الثلاثة، ونكّل العنصريون ببقية المعتقلين، إلا أنهم اثناءّوا فخورين بحالة النصر التى حققها رفقاؤهم الثلاثة، ونالوا القيمة التى اختلفوا على الطريق للوصول اليها، وهي الحرية. ناضل الثلاثة مـن خارج السجن، وأفرج عَنْ غولدبيرغ ونُفى الي لندن عَامٌ 1985، اى بعد الهروب بستة أعوام، وهو الذى كان محكومًا مدى الحياة. واصل حملته امام الفصل العنصري مـن لندن مع عائلته، حتـى أُلغي نظام الفصل العنصري بالكامل فى انتخابات عَامٌ 1994.
هذه كانـت إحدى فصول الكفاح امام نظام الفصل العنصري، وفي حالتنا الفلسطينية، فعلى الرغم مـن الملحمة البطولية التى يقدمها الجمهور الفلسطيني، فإنه بحاجة لحكيم مثل دينيس غولدبيرغ، يؤمن بأن الفسيفساء الفلسطينية مصدر قوة للمجتمع الفلسطيني- وليست موطن ضعف- يجعل مـن الخلاف إضافة للحالة الوطنيه وليس مصدرَ فرقة وانشقاق. يراكم على تجارب الآخرين، ولا يفشلها. يوفر حاضنة معنوية للحالات النضالية، ولا يتنكّر لها.