الاخبار العربية والعالمية

الفيلم السويدي “شكر واعتذار”.. علاقات الدم غير قابلة للكسر | فن سام نيوز اخبار

يريد الفيلم السويدي “شكر واعتذار” (Thank You, I’m Sorry) -للمخرجة ليزا أشان- الي شجاعة كبيرة مـن الْمُشَاهِدِينَ، إذا أراد ان يتجاوز كونه عملا ترفيهيا كئيبا، كَمَا قد يترقب اى شخص مـن سينما المخرج الأشهر أنغمار بيرغمان، الذى يعد الأب الروحي لها، فقد طبع بأفلامه الـ50 أجواء الإنتاج الفيلمي السويدي بالكآبة والعمق، وأيضا الجمال الذى يكمن فى الحكاية نفسها.

ولم تبتعد أشان عَنْ أجواء “أنغمار” كثيرا، إذ يدور الفيلم حول “سارة” الحامل فى شهرها الثامن، التى تعيش مع زوجها دانييل وابنتها إيليون فى هدوء، لكنها تفاجأ بالزوج يتحدث اليها بشكل غامض مؤكدا أنه سوف يهجرها بعد ساعات، وقبل مرور تلك الساعات، تفاجأ مرة أخرى به ميتا فى سريره نتيجه أزمة قلبية.

فسارة، التى لا يساعدها حملها على خدمة ابنتها، تسقط فى مآزق عدة، لكن أقساها هو حاجتها للرعاية مـن شخص يملك التفاني والصبر الذى يجعله يضحي راضيا، فقد أنهت علاقتها بأسرتها منذ وفاة والدتها. اما أسرة زوجها، فهي لا تعرفها مـن الأصل إلا عبر دانييل نفسه. وتظهر شقيقة سارة فجأة، فى محاولة لإعادة التواصل مع شقيقتها.

وتقدم كل مـن المخرجة والبطلة سانا ساندكويست فى “شكر واعتذار” درسين فى الإبداع السينمائي أولهما فى ادارة الممثل وثانيهما الأداء الظاهر الذى ينقل بدقة الحالة الذهنية والنفسية، بل ويحكي قصة الشخصية نفسها.

الشقيقتان اللتان لا تشبهان والديهما في شكر واعتذار(نتفليكس).jpg
الشقيقتان اللتان لا تشبهان والديهما فى “شكر واعتذار” (نتفليكس)

أداء مفاجئ

على عكس المقولة الشائعة عَنْ ذلك “البرود” فى مشاعر الأشخاص بالغرب، فإن انفعال الغربي وشعوره لا يقلان عَنْ الشرقي، ويكمن الاختلاف الحقيقي فى التعبير عَنْ ذلك الانفعال وتلك المشاعر، وهو أمر يتعلق بالسيطرة لا العواطف.

والمفاجأة الأولى فى “شكر واعتذار” هى ذلك الأداء الذى يصح ان نطلق عليه “الأداء المتصلب” فهو بخيل جدا فى استخدام الأطراف الأربعة للإنسان، وملامح الوجه أيضا. ورغم ذلك، فإن تراكم الانفعالات الي حد الانفجار يمكن ان يدفع سارة الي قذف حماتها بهاتف محمول يؤدي الي جرح عميق فى جبهتها، أو ضرب شقيقتها الكبرى أكثر مـن مرة.

ولكن العنف فى سلوك سارة لن يترك ذلك الأثر العميق فى مشاعر الْمُشَاهِدِينَ كيفما يترك ذلك البله الذى ظهر على وجهها اثناء أبلغها زوجها أنه سيتركها، ومن ثم نظرتها الجامدة نحو بطنها الممتد فى إشارة الي الهم القادم.

وبعيدا عَنْ الأداء الحركي، تبقى الرسائل الكامنة فى عيني سانا ساندكويست هى الأقوى والأكثر قدرة على أسر المُشاهد، فقد أرسلت كميات محددة مـن تلك الطاقة السحرية، كانـت كفيلة بسحر الْمُشَاهِدِينَ فى اطار شفاف مـن الشجن، ومن ثم فاجأته فى النهايه بتلك الطاقة تنتج بهجة وراحة نفسية ترتبط بالمشاهد أولا، ثم بالفيلم.

والشقيقة الأكبر ليندا والتي لا تبدو ايضا، يظهرها الفيلم -فى البداية – امرأة مستهترة، وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، لكنه يكشفها بالتدريج مـن اثناء الاحداث، ومن اثناء حوار شديد الذكاء والوعي، فهي لا تختلف مع اى شخص ولا مع اى رأي، وهي مطيعة وراضية الي حد أمومي يستدعي نموذج بعض السيدات اللاتي ربما لا يملكن ترف مناقشة الرجل، لكن ليندا أكثر ضعفا.

والتكوين الجسدي للممثلة شارلوتا بيورك -التى جسدت دور ليندا- يكاد يكون مثاليا للدور، فهو غير منتظم أيضا، وهي متورطة فى علاقة استغلال مع شخص غير متزن نفسيا، فرض عليها ان يعيش فى بيتها ويستغلها ماديا، بعد ان ربحت أكثر مـن نصف مليون كرونة فى لعبة اليانصيب السويدية (55 ألف دولار أميركي).

وتنصاع ليندا للجميع وتغفر لكل مـن يسئ اليها، فهي لا تعرف اختيارا آخر، لأن نشأتها وطبيعتها جبلت على العطاء، وهي تشبه فى ذلك والدتها التى طلقت مـن والدها السكير الخائن بعد معاناة طويلة.

توريث الأزمات

الحماة أو والدة الزوج الميت شخصية صنعها التوازن المجتمعي الحتمي، فالأب “الحمو” يبدو عاطفيا لدرجة مرهقة، لم يتوقف عَنْ البكاء، ويميل للعب مع “الطفلة إيليوت” بينما زوجته الثكلى تدير الامور بشكل عادي كَمَا لو كانـت تنظم حفلا، وتهتم بمستقبل أرملة الابن وطفلتها فى حوارها معها، لكن الْمُشَاهِدِينَ المتتالية تنقل واقعا آخر، إذ تقوم الحماة بالإشراف، بينما تقوم سارة الحامل فى شهرها التاسع بالعمل المجهد.

وتفاجئ ليندا شقيقتها فى جنازة زوجها، وبينما يرتدي الجمع ملابس سوداء، فهي ترتدي معطفا أقرب الي الأزرق (وهو لون الورد الذى يهدى فى حالات الوفاة لأهل المتوفى) وتأتي مصطحبة كلبها، وتقابلها سارة ببرود أقرب الي النفور.

وبعد انتهاء العزاء، تحاول ليندا مقابلة شقيقتها، لكنها ترفض، فتفرض نفسها عليها، وتتعرض للطرد، لكنها تسمح لها بالبقاء فى النهايه، ومن هنا تبدأ فى تشكيل ملامح دور لرعاية ابنة شقيقتها.

وهنا يفرض السؤال نفسه بقوة: ما الأزمة التى جعلت الأداء فى العمل يشبه حالة تشنج لا تنتهي؟

وتتكشف الإجابة تباعا عبر مشاهد العتاب المتواصل مـن الأخت الصغرى (سارة) التى جعلها الهم تبدو أكبر مـن شقيقتها، وهي لفتة تحسب للمخرجة. فقد طلق الأبوان، بينما كانـت الصغرى قد ارتبطت بشقيقتها الكبرى، فى أسرة مفككة بين أب سكير مستهتر وأم حزينة خاضعة، واختارت ليندا ان تعيش مع الأب، وهو ما اعتبرته سارة خيانة لها ولمشاعر الطفلة بداخلها، لذلك اعلنت لها بعد عزاء الأم “لا أريد ان أراك مرة أخرى”.

وأطاعت ليندا المطيعة دائما شقيقتها، لكنها علمت بوفاة زوجها، فأتت، وتركت والدها فى دار المسنين يعاني مـن ألزهايمر. وفي مشهد بديع يستدعي معارك الطفولة، تشتبك الأختان الكبيرتان فى معركة بالأيدي، يبدو فيها الحب أكثر مـن الغيظ أو الحقد.

وتعترف سارة أنها تشبه أبيها، وأن ليندا تشبه أمها. ولعلها مفاجأة العمل الذى استطاع ان ينفذ الي عمق الأزمة التى تعانيها سارة: إنها تكره نفسها، ولا تقبل ذلك التكوين النفسي الذى يذكرها بأب ظالم وقاس وخائن، ولكن هل الأب -بالفعل- يحمل هذه الصفات؟

ولا يسعي الفيلم الإجابة، فالمطلوب هو الغفران، والتجاوز واستئناف الحياة، والتمسك بما هو أكثر قيمة وأعظم تأثيرا (الرباط الأسري) الذى يعد حائط الصد الأخير امام تقلبات الحياة والأزمات التى لا يمكن توقعها.

الشقيقة والحماة يتسابقن للمساعدة في فيلم شكر واعتذار(نتفليكس)
الشقيقة والحماة تتسابقان للمساعدة فى “شكر واعتذار” (نتفليكس)

الحماة

يبقى دور الحماة هيلين، الذى جسدته الممثلة لانغا هامر، وقد بذلت جهدا واضحا فى محاولاتها لاداء دور المرأة الكبيرة التى تتجاوز مشاعر الفقد، وتصمد امام الأزمات، وتعمل بدور الشخص القوي فى وجود زوج ضعيف وعاطفي الي حد مزر، ولكنها لا تخلو مـن الصُّورَةُ النمطية للحماة التى تحاول السيطرة على أرملة ابنها وأسرته وتلجأ فى ذلك للوقيعة بين الأختين، وتستعين بخبرتها كمعالجة نفسية، لكنها تخضع للعلاج النفسي فى النهايه وتتحول الي داعمة لترميم العلاقة بين الأختين فى تحول مفاجئ لم يتم إشباعه بالقدر المقنع للمشاهد.

وقد قدمت أشان عملها الرابع بعد “فتيات القرود” (Apflickorna) عَامٌ 2011، و”الجمهور الأبيض” (Det vita folket) عَامٌ 2015، و”اتصل بماما” (Ring mamma!) عَامٌ 2019، لتؤكد استحقاقها لما تلقته مـن ثناء وجوائز بمهرجانات تريبيكا وغوتنبرغ وبرلين، وتكون نبؤة للسينما السويدية التى قدمها بيرغمان للعالم ودفع بها الي قمة سينما العالم يوما ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى