أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية مـن غزة تحت القصف | ثقافة سام نيوز اخبار
يقول الروائي الألماني أريش ماريا ريمارك فى روايته الأشهر “كل شيء هادئ فى الجبهة الغربية” الصادرة عَامٌ 1929، “مـن المستشفى فقط يمكن ان تعرف فظاعة الحرب”. وأنت تقرأ يوميات التشكيلية ورسامة الكاريكاتير الفلسطينية المعروفة أمية جحا المقيمة فى غزة والتي ستُنشر حصريا على الجزيرة نت، حتما ستذكر رواية ريمارك، للتشابه الكبير بين ما يحدث الان على الأرض فى غزة مـن استهداف للفلسطينيين وما حدث فى الحرب الكونية الأولى مـن فظائع.
سردت السيدة جحا فى يومياتها ما يحدث يوميا على الأرض فى مستشفى الشفاء بغزة، مـن مشاعر متباينة للمواطن الفلسطيني، مشاعر متوزعة وسـط النزوح بين الصمود والخوف والقلق وضبابية معرفة موعد انتهاء كل تلك المعاناة بانتهاء الحرب.
كتب ريمارك روايته بعد ان ســاهم كجندي فى الحرب العالميه الأولى. عاد الي بلاده ودون تفاصيل دقيقة دَاخِلٌ الرواية حول ما حدث مـن فظائع لا تمت للإنسانية بصلة، حكى مطولا عَنْ الاحداث الإنسانية اليومية للجنود مـن شجاعة وضعف وأمل وذكريات وحب، حكى عَنْ الحرب كجريمة فى خاصرة الإنسانية.
حكايات مـن “منطقه الموت”
وثقت أمية جحا فى يومياتها ذات الـ10 أجزاء والتي خصت بها مجموعه الجزيرة، الْأَوْضَاعُ الإنسانية القاسية التى تدور أحداثها فى مستشفى الشفاء بغزة، والذي وصفته منظمة الصحة العالميه فى نوفمبر/تشرين الثانى الماضي فى تقريرها الدورى بأنه “منطقه موت”.
تقول أمية”على الجانب الأيسر مني تفترش الأرض عائلة هيام. صبية تزوجت منذ 5 اشهر وحامل حديثا، تم قصف بيتها، بينما كان زوجها مسافرا لفترة قصيرة الي مصر قبيل اندلاع الحرب بأيام. لجأت الي بيت والديها، أمها تخشى عليها وعلى جنينها مـن رهبة القصف، اعلنت لي: ليتني أستطيع ان أخبئها هى وإخوتها فى رحمي مرة اخري! أختها سندس ذات الـ15 ربيعا، أصيبت بحصر فى البول مـن الخوف، كانـت دائمة الاهتمام ببشرتها، تضع كريما مرطبا على وجهها ويديها قبل وبعد النوم، حتـى فى أيام الحرب”.
“مأساة الأمهات هنا، فى صعوبة توفير الملابس البديلة، وفي الإحراج الناجم عَنْ غسل الفراش المبلل، وكيفية نشره ليجف، وفي صعوبة الاستئثار بالحمام، فى اثناء حاجة الجميع له، ناهيك عَنْ إمكانية وجود الماء أصلا! فغالبا لا يتوفر الماء إلا بعد عصر كل يـوم، ويكون مذاقه ملحا أجاجا”.
ومثلما كتبت عَنْ المواقف المأساوية لم تنس السيدة جحا سرد إيجابيات النزوح الجماعي فى شخص الطفلة هاجر “هاجر طفلة فى الـ11 مـن عمرها، كانـت تعاني فوبيا صوت الصواريخ فى بيتها، تقول أمها بأنها كانـت لا تفارقها، حتـى لو اضطرت أمها الي دخول الحمام لقضاء حاجتها! لم تعد هاجر اليـوم تخشى أصوات الصواريخ، وهي وسـط النازحين! ولا تضع يديها على أذنيها لتلافي سماع أصواتها”.
فى خضم كل تلك المآسي لم تغفل السيدة جحا فى يومياتها أيضا عَنْ توثق المواقف الطريفة بين النازحين فى مستشفى الشفاء. “اما أم البراء، فهي سيدة فى بداية العقد الرابع مـن عمرها، موظفة فى وزارة الأوقاف. كانـت مـن أوائل النازحين الي المشفى، بعد تهديد بيتها وبيوت بعض جيرانها بالقصف! آثرت أم البراء ان تجعل فى مكوثها رسالة دعوة الي الله أيضا، فتقوم بإعطاء المحاضرات الدينية القصيرة، يتجمع حولها النازحون، ويستمعون لها باهتمام. أم البراء تحمل حسا فكاهيا أيضا، اعلنت لي: اليـوم يبلغ زمن مكوثي هنا 21 يوما، لو كان تحتي بيض، لكان حولي الان صيصاني”.
وتختزل أخيرا كل المشهد فى تجربة شخصية لها مع البرتقال بعد اسبوعين مـن اندلاع الحرب “اليـوم فقط تمكنت مـن تناول نصف حبة برتقال، استطاع زوج أختي مـن شراء كيلوين مـن البرتقال، إنه موسـم الحمضيات فى غزة، ولكن مـن ذا الذى يجرؤ على قطف ثمار بستانه!! وكمْ مـن البساتين وآلاف الدونمات الزراعية تم تدميرها!؟”.
خليفة ناجي العلي
تسكن أمية فى برج زغبر بحي النصر شمال غربي غزة، وهو الحي الذى قصفته قوات الاحتلال فى أول أيام الحرب. عشقت الرسم منذ نعومة أظافرها، كانـت ترسم علي جدران وأرضية منزل أسرتها بالفحم أو الطباشير ولم تسلم بالطبع دفاتر إخوتها الكبار مـن خربشاتها. طوال مدة دراستها الأولى زاد التصاقها بالرسم بعد ان وجدت التشجيع مـن معلميها، وكان أكثر رسمها آنذاك ينحصر فى رسم الطبيعة فقط، الي ان لفت انتباهها فن الكاريكاتير عند الفنان الفلسطيني الشهيد ناجي العلي والرسام اللبناني محمود كحيل.
تقول أمية فى تصريح حصري بالجزيرة نت: أسرني ناجي العلي بأفكاره الكبيرة والتعليق الطويل المصاحب للرسم، وشكل الخط واللونين الأبيض والأسود. فناجي العلي لم يكن يريد للألوان ليلفت الْمُشَاهِدِينَ لقوة وجمال الرسم.
تستطرد السيدة جحا: كنت لا أزال غضة العمر والتجربة والإدراك، اثناء عرفت فلسطين ومأساة اللاجئين وحجم المؤامرات التى تحاك على شعبنا وحقوقه. مـن هنا كانـت بداياتي فى متابعة الصحف والاهتمام بقراءة الأخبار والمقالات، وتقليد رسومات ناجي العلي حتـى منتصف اعوام الجامعة، والتي صار حينها لقب “خليفة ناجي العلي” لصيقا بي. لاحقا أردت ان يكون لي بصمتي الخاصة الفريدة رسما وأفكارا، ولكنها فى الوقت ذاته بصمة تصب فى القضية ذاتها التى استشهد لأجلها هذا الفنان الرائد -رحمه الله- ومنها صرت أقيم المعارض الشخصية لي فى جامعة الأزهر بغزة.
عملت أمية بالتدريس لـ3 أعوام، لكنها آثرت الالتحاق بالعمل الصحفى فى مجال الكاريكاتير فى العام 1996. التحقت أولا بصحيفة “الرسالة” الأسبوعية، ثم صحيفة “القدس” كبرى الصحف التى تصدر فى فلسطين، وغيرهما مـن الصحف والمنصات الصحفية المحليه والعربية. حصـلت أمية على الجائزة الأولى فى الكاريكاتير التى أقامتها وزارة الثقافة الفلسطينية عَامٌ 1999، والجائزة الأولى فى الكاريكاتير فى الصحافة العربية بدولة الإمارات العربية المتحدة عَامٌ 2001، وأخيرا الجائزة الكبرى فى مسابقه ناجي العلي للكاريكاتير فى تركيا عَامٌ 2010.
فى عَامٌ 2005 أسست أمية شركة لصناعة الرسوم المتحركة، أنتجت فيها العديد مـن الأناشيد والأغاني الكرتونية الخاصة بفلسطين، وكذلك أنتجت أول فيلم كرتوني يتحدث عَنْ نكبة فلسطين باسم حكاية مفتاح”، كَمَا أصدرت 10 أعداد مـن مجـلة” يزن الشهرية الخاصة بالأطفال. تابعت أمية لاحقا دراساتها العليا وحصلت على الماجستير فى التَّارِيخُ فى عَامٌ 2019.
تقول السيدة جحا فى مذكراتها، والتي شرعت فى كتابتها بعد مرور 18 يوما على بداية الحرب وهي تصف المشهد فى مستشفى الشفاء “كنت أبكي بصمت. ما ذنب هؤلاء الأطفال والنساء، ليتشردوا بهذا الشكل المهين؟ كان مشهدهم وهم نيام، أشبه بجثث لفظها البحر، فتوزعت بغير انتظام، بعضها فوق بعض! كيف ستمحى هذه التغريبة مـن ذاكرتهم؟”.
فى آخر اليوميات التى وصلت منها للجزيرة نت بتاريخ الجمعة 10 نوفمبر/تشرين الثانى 2023 تقول السيدة جحا “كل المؤشرات كانـت تدل على ان ليلة الجمعة ستكون حاسمة، فالقصف العنيف يشتد ويقترب مـن مشفى الشفاء، وبقيت الاشتباكات مع المقاومة مستمرة.
حتـى إن ادارة المشفى تركت أبواب الطابق الأرضي مفتوحةً للرجال هذا المساء، فى حال حدوث قصف مباغت للمشفى، فيتمكن الرجال مـن دخول الأقسام، لنجدة ذويهم فى الطوابق الـ5، الخاصة بقسم الولادة، كان جميع مـن فى العنبر يشعرون بالخوف والترقب، وكثير منهم لملم أغراضه، ليرحل فى الصباح مـن المشفى، منهم مـن كان يريد العودة لبيته، حتـى لو قصفوه عليه، وكثير منهم كان ينتوي التوجه للجنوب، حتـى وهو يسمع مـن هنا وهناك عَنْ مخاطر الطريق الآمن! اما أنا فقد قررت البقاء فى المشفى”.
بين يديك عزيزي القارئ -على مدار الأيام القادمة- يوميات سيدة فلسطينية مـن حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، تحب القطط والعصافير والجيران وترسم اللوحات، تحتمي الان بمستشفى الشفاء بغزة تحت القصف وتفترش بلاط المستشفى البارد فى انتظار النجاة.
- ملاحظة: تواريخ كتابة هذه المذكرات ليست يومية ومتتابعة وفق أيام الاسبوع، لكنها يوميات كتبت فى أيام متفرقة وفق توقيت الحرب وعلى السادة القراء مراعاة فروق الوقت.