الاخبار العربية والعالمية

الاستبداد الوطني المقدّس! | آراء سام نيوز اخبار

يُحكى انّ امرأةً عربيةً عجوزًا فى النصف الاول مـن القرن العشرين، عاشت حياتها فى ضنك مادي، بينما تسأل المتعلمين فى القرية: متى ينتهي هذا الضنك؟، فكانوا يجيبونها: عندما يغادر الاحتلال ويأتي الاستقلال.

ثم جاء الاستقلال، وأُقيمت الأفراح، وابتهج الناس، واستبشروا خيرًا كثيرًا، لكن الذى حدث هو استمرار الضنك ودوام ما تعانيه العجوز والبلاد مـن بؤس، فبدل ان كانـت تتساءل: متى يأتي الاستقلال، أصبح سؤالها هو متى ينتهي الاستقلال؟

لم تدرك العجوز ان الاستعمار ترك وراءه أمرَين: تحدياتٍ أكبرَ مـن إمكانات الشعوب، ثم نخبًا عجزت عَنْ بناء الإمكانات بما يكفي للتغلب على التحديات.

تطوير فكرة الاستعمار

هذه النخب التى أعقبت الاستعمار ورثت طغيان الاستعمار، ثم ارتفعت فيه وقطعت فيه أشواطًا بعيدة، كان يتورّع عنها الاستعمار، ثم انَّ هذه النخب – بحداثة نشأتها – لم تملك دهاء الاستعمار فى الحكـم والسياسة والإدارة. وعندما يحكم الطغيان بغير دهاء وذكاء يكون النتاج أمرَين اثنَين: أولهما مزيد مـن القهر، وثانيهما مزيد مـن الفقر.

منذ سبقت فرنسا العديد مـن القوى الأوروبية وافتتحت موجة الاستعمار الأوروبي الحديث بغزوة نابليون بونابرت على مصر والشام، وحتى تتويج هذه الموجة بتأسيس إسرائيل على أرض فلسطين عند منتصف القرن العشرين، منذ هذين التاريخين، وشعوب هذه المنطقة تكافح على ثلاث جبهات: التحرر مـن الاستعمار، والتحرر مـن الاستبداد، والتحرر مـن الاستغلال؛ اى الاستقلال، والحرية، والعدل الاجتماعي.

كل الإنجاز الذى تم هو انّ الاستعمار الأوروبي انتهى، لكن حلّت محله الهيمنة الأميركيّة – الأوروبية. غادرت قوات الاحتلال، وتوقّف الحكـم المباشر أو غير المباشر الذى يمارسه المحتل، لكن استمرت علاقات الهيمنة والسيطرة، سواء بفعل التفوق الموضوعي للغرب، أو بسـبب احتياج الدول المستقلة حديثًا الي معونة الغرب، بدءًا مـن الغذاء حتـى السلاح، أو بسـبب ان بعض النخب التى حلت محل الغرب كانـت لديها الميول للتصالح مع الغرب أو التعاون معه، ومن شذّ عَنْ هذه القاعدة انكسرت محاولته، ثم انكسر، ثم خلفَه على الحكـم مَن قبِلَ الاندماجَ فى وعاء الهيمنة الغربية المتجددة.

استطاعت الهيمنة الأميركية الأوروبية – دون احتلال مباشر – ان تطور فكرة الاستعمار دون استفزاز كرامة الشعوب أو المساس باستقلالها الوليد، تمّ تطويق دول المنطقة – دون إكراه مادي – باتفاقات عسكرية وأمنية واقتصادية ومعلوماتية، حلّت بجدارة وكفاءة محل الاستعمار القديم، وأغنت عنه.

باتت الهيمنة عادةً مألوفة تعيش ويعيش تحتها الناس دون استفزاز، ووفر هذا غطاءً للطرفَين المستفيدَين: الطرف الاول؛ هو الغرب سواء حكومات أو شركات، ثم الطرف الثانى؛ هم الحكام ومن حولهم مـن طبقات وفئات مستفيدة- اقتصاديًا وسياسيًا- مـن تبادل المنافع بين قوى الهيمنة الخارجية وقوى الاستغلال الداخلي.

تهميش الجمهور

قوى الهيمنة الخارجية، وقوى الاستغلال الداخلي انتبه اليها الدستور المصرى الاول بعد ثورة 23 يوليو 1952م، وبعد اتفاق الجلاء بين مصر والمحتل البريطاني 19 أكتوبر 1954م، وبعد تحقق الجلاء ذاته ورحيل آخر جندي بريطاني 13 يونيو 1956م، وقد خرج هذا الدستور الي النور فى 16 يناير 1956م، بعد مدة انتقالية استمرت ثلاث اعوام، وقد تم الاستفتاء الشعبي عليه فى 23 يونيو 1956م.

ورد فى ديباجة الدستور: ” نحن الجمهور المصرى، الذى انتزع حقه فى الحرية والحياة، بعد معركة متصلة امام السيطرة المعتدية مـن الخارج، والسيطرة المستغلِّة مـن الداخل.

نحن الجمهور الذى تولى أمره بنفسه، وأمسك زمام شأنه بيده، غداة النصر العظيم الذى حققه بثورة 23 يوليو 1952م، وتوّج به كفاحه على مدى التَّارِيخُ.

نحن الجمهور المصرى، الذى استلهم العظة مـن ماضيه، واستمد العزم مـن حاضره، ورسم معالم الطريق الي مستقبل: متحرر مـن الخوف، متحرر مـن الحاجة، متحرر مـن الذل، يبني بعمله الإيجابي مجتمعًا تسوده الرفاهية، ويتم له فى ظلاله: القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الإقطاع، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكـم، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة حياة ديمقراطية سليمة.

نحن الجمهور المصرى، الذى يؤمن بأن: لكل فرد حقًا فى يومه، ولكل فرد حقًا فى غدِه، ولكل فرد حقًا فى عقيدته، ولكل فرد حقًا فى فكرته، حقوقًا لا سلطان عليها أبدًا لغير العقل والضمير.

نحن الجمهور المصرى، الذى يقدس الكرامة والعدالة والمساواة، باعتبارها جذورًا أصيلة للحرية والسلام “.

هذه النصوص كانـت معبِّرة عَنْ مطالب المصريين قبل سبعة عقود أو أكثر مـن الاحتلال، وهي – اليـوم – صالحة للتعبير عَنْ مطالب المصريين بعد سبعة عقود على الاستقلال.

الفرق هو انّ المصريين كان فى إمكانهم انتقاد الاحتلال وانتقاد الاستبداد، وانتقاد الاستغلال بصورة أكبر وأقوى مـن قدرتهم على الانتقاد فى عهود الاستقلال، تم تقليص إمكانات المواطنين وحقوقهم وهوامش حركتهم إزاء السلطة الوطنيه التى خلَفت وأعقبت الاحتلال.

فلو أُعيدت كتابة هذه النصوص فى ديباجة دستور جديد يُكتَب عَامٌ 2056 م؛ اى بعد مرور مائة عَامٌ مـن الدستور الاول 1956م، فسوف تكون تعبيرًا عَنْ مطامح شعب، استمرّت معاناته تحت الاستقلال، فى أشكال مختلفة، وتحت مبررات وذرائع وطنية، فلم يتحرر بعد سبعة عقود مـن الاستقلال، لم يتحرر مـن الخوف، لم يتحرر مـن الحاجة، لم يتحرر مـن الذل، كل ما تم هو إحلال سيطرة محل سيطرة، وتطوير أشكال الاستغلال مع بقاء مضامينه قائمة.

مصيدة الدولة

مازالت الفجوة قائمة ومتسعة بين دساتيرَ مُفعمةٍ بروح الحريات والحقوق والواجبات، وبين واقع مرير، القائم منه شر مما مضى، والقادم منه شر منهما معًا.

قانون عكسي يحكم تطور الحريات والحقوق والواجبات، فكلما مرّ الزمن تدهورت الْأَوْضَاعُ الي الخلف بدل ان تتقدم الي الأمام. وهكذا فكل مرحلة جديدة أسوأ مـن السالفة عليها.

مـن أول دستور بعد ثورة 1919 فى 1923م، ثم أول دستور بعد ثورة 23 يوليو 1952م، الي آخر دستور 2014م ثم تعديلاته فى 2019م، فى مائة عَامٌ مـن الحياة الدستورية 1923 – 2023م، حظي المصريون بنصوص دستورية رائعة جرى اقتباسُها مـن خير دساتير الأرض.

لكن هذا التطور النظري الدستوري لم يرافقه تطور مماثل فى الواقع؛ اى فى علاقة السلطة بالشعب، فما زال الجمهور – كَمَا اعلن سعد زغلول فى أول خطاب لحكومته فى يناير 1942م – ينظر لحكّامه نظر الصيد للصائد لا نظر الجندي للقائد.

ما زالت الدولةُ – فى نظر المواطن – كمينًا ومصيدة وفخًا وسجنًا، عليه ان يتفادى الوقوع فيه، هى ليست سياج أمان ولا موضع اطمئنان، هى مورد شك وخوف وريبة.

المائةُ عَامٌ الدستورية 1923 – 2023م: ثلاثون منها تحت الاحتلال والملوك مـن سلالة محمد علي باشا (فؤاد ثم فاروق)، وسبعون منها تحت الاستقلال والرؤساء فى اثناء النظام الجمهوري.

الفارق بين الفترتَين: ان الفتره الأولى، ببركة ثورة 1919م استحضرت همّة الجمهور وروح الجمهور. اما الفتره الثانية، بالطابع العسكري لثورة 23 يوليو، فقد استبعدت الجمهور.

حضور الجمهور – كمجتمع ناخبين – استمر فى الأولى؛ لأنها قامت على الديمقراطية البرلمانية، حيـث الانتخابات الدورية بين الأحزاب.

حضور الجمهور – كقوة سياسية – فى الثانية تلاشى حتـى اختفى؛ لأنها قامت على نظام رئاسي لا يجري فيه انتخاب الرئيس بالتنافس بين أكثر مـن مرشح، لكن بالاستفتاء على مرشح واحد فقط.

هذا المرشح الواحد – مـن موقعه كرئيس – يختار مجموعه البرلمان، ثم مجموعه البرلمان يرشحونه، وهنا لا معنى لمشاركة الجمهور غير استيفاء الشكل فى أشد تجلياته سطحيةً وقِشريةً تبلغ حد تفاهة الشأن.

ثم تطور نظام المرشح الواحد، الي نظام يختار فيه المرشح عدة مرشحين شكليين الي جواره، هم ليسوا مرشحين بالأصالة عَنْ أنفسهم، لكنهم مرشحون شكليون، يختارهم المرشح الواحد الأوحد، ويضع لهم حدودَ ما يقولون ويفعلون، ومَن يخرجُ منهم عَنْ المرسوم له يجري عقابُه.

خلاصة الفرق بين الفترتَين: ان الفتره الأولى 1923 – 1953م ارتفعت مـن قدرات المواطن على ممارسة حقّ اختيار مَن يحكمونه. بينما الفتره الثانية 1953 – 2023م ارتفعت مـن قدرات الحكام على اختيار أنفسهم بأنفسهم، بإملاء إرادتهم على المؤسسات التى صنعوها بأنفسهم، ثم المؤسسات تتولى تَسْتِيفَ الباقي سواء حضر قليل أو كثير مـن الناخبين، فلا فرقَ بين حضور ضعيف أو كثيف، فى كلا الحالَين نتائـج الانتخابات معلومة ومقدّرة سلفًا وقبل ان تبدأ.

أخطر تواريخ مصر

فى 10 ديسمبر 1952م، صرح الضباط الأحرار سقوط دستور 1923م – الدستور الوحيد الذى تمرّن المصريون تحت مظلته على لعبة الديمقراطية – فقد صرح اللواء محمد نجيب أنه: ” لا مناص مـن دستور جديد حتـى تتمكن الأمة مـن الوصول الي أهدافها وأن تكون – بحق – مصدر السلطات.

وقال السياسي المخضرم علي ماهر باشا – الذى قبل ان يكون رئيس وزراء تحت قيادة الضباط فاستخدموه ثم رموه -: ” دستور 1923م كان يعبر عَنْ ديمقراطية القرن التاسع عشر، ولم يعد صالحًا للبقاء على حالته فى العصر الحديث”.

مثل تلك العجوز التى لم تكن تدرك ان الحكـم الوطني الذى أعقب الاستعمار لم يكن افضل مـن الاستعمار.

لم يدرك اللواء ان الأمة لن تكون مصدر السلطات، ولم يكن يدور فى خياله ان الرئيس سوف يكون هو المصدر الاول والأخير للسلطات.

وكذلك لم يدرك علي ماهر باشا انّ البديل عَنْ دستور 1923، لن يكون ديمقراطية متطورة عَنْ ديمقراطية القرن التاسع عشر، وإنما دكتاتورية مـن دكتاتوريات القرن العشرين.

حتـى يتم تبرير الانتقال مـن ديمقراطية برلمانية ذات مثالب وعيوب الي دكتاتورية رئاسية ذات بأس شديد، كان لابد مـن استحضار الوطنيه المقدسة لتلقي رداءها على هذا الاستبداد الرئاسي المبتكر وإضفاء المشروعية الشعبية عليه.

فى عَامٌ 1956م عرفت مصر أخطر تواريخها المعاصرة:

1-  جلاء القوات البريطانية فى 13 يونيو 1956م.

2- الاستفتاء على الرئيس جمال عبدالناصر بنسبة “99.9” رئيسًا للجمهورية فى 23 يونيو 1956م.

3- تأميم قناة السويس 26 يونيو 1956م .

4 – العدوان الثلاثي – الإسرائيلي البريطاني الفرنسي – على مصر 26 أكتوبر 1956م .

بين هذه التواريخ الأربعة تهيأت اللحظة التاريخية لميلاد الاستبداد الوطني المقدّس.

وهذا هو موضوع مقال الاسبوع القادم بمشيئة الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى