الاخبار العربية والعالمية

تاريخ طويل مـن الإنكار.. كيف استمرت إسرائيل فى الكذب بشأن ترسانتها النووية؟ سام نيوز اخبار

مُقَدَّمَةٌ الترجمة

أثار تصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو الذى دعا خلاله الي ضرب غزة بالسلاح النووي موجة مـن الانتقادات الواسعة دوليا، بل وحتى فى الداخل الإسرائيلي، جزء مـن هذه الانتقادات (خاصة الداخلية منها) لا يعود فقط لمدى وحشية هذا الاقتراح ودمويته، فإسرائيل تمارس قصفا وحشيا بحق غزة أودى بحياة 11 ألف شخص على الأقل حتـى اللحظة وهي لا تمانع فى قتل المزيد بدم بارد، بقدر ما يرجع الي كون هذا التصريح كسر سياسة داخلية عمرها عقود ترتبط بـ”الغموض النووي” الإسرائيلي.

فكيف نشأت هذه السياسة؟ ولِمَ تعمدت إسرائيل التعمية على امتلاكها للسلاح النووي؟ هذا ما يجيبنا عنه دوغلاس بيرش وجيفري سميث فى مقالهما المنشور فى صحيفة “ذي أتلانتيك” عَامٌ 2014، الذى ننشره مترجما اليـوم لأهميته فى هذا النطاق.

نص الترجمة

فى تصريح له اثناء جلسات تأكيد تعيينه وزيرا للدفاع فى مجلس الشيوخ عَامٌ 2006، صرَّح روبرت غيتس، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) بأن إيران محاطة بـ”قوى تملك فى حيازتها أسلحة نووية”، بما فى ذلك “إسرائيل التى تقع غرب إيران”. وأكَّد الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر ذلك مرتين، مرة فى عَامٌ 2008، والأخرى عَامٌ 2014 اثناء مقابلات أجراها وخطابات أكَّد فيها ان عَدَّدَ رؤوس الحرب النووية الإسرائيلية حتـى ذلك الوقت كان يتراوح ما بين 150-300 رأس حربي.

ولكن بسـبب غرابة بعض القوانين التى تحمي قواعد السرية الفيدرالية، لا يُسمَح عادة لأولئك الذين يعملون فى الحكومة الأميركية ويحملون تصاريح أمنية بالإدلاء بمثل هذه التصريحات. وإنما فى حقيقة الامر، يتلقى المسؤولون الأميركيون -حتـى أولئك الموجودون فى الكونغرس- تحذيرات دائمة ومتكررة مـن ذكر وجود ترسانة نووية إسرائيلية، وإن لم ينأوا عَنْ اثناء هذا الموضوع، فلن تتورع السلطات عَنْ إيجاد وسيلة لمعاقبتهم.

فى عَامٌ 2014، أثارتْ سياسة الولايات المتحدة المُتمثلة فى حماية البرنامج النووي الإسرائيلي جدلا واسعا، ومع ذلك، فإن الصمت الأميركي فى هذا الصدد اثناء ثابتا لا يتزعزع قيد أنملة. (الصُّورَةُ: غيتي)

إن سياسة عدم تأكيد وجود ترسانة نووية إسرائيلية علنا -التى وصفها أحد العلماء ذات مرة بأنها “أحد أسوأ الأسرار المحفوظة فى العالم”- تعود الي اتفاق سياسي بين الولايات المتحدة وإسرائيل فى أواخر الستينيات. وقد أدت هذه السياسة الي مساعدة إسرائيل فى الحفاظ على موقف عسكري فريد فى الشرق الأوسط مع تجنب الضغوطات والانتقادات أو الاستهجانات التى تُوجَّه فى العادة للقوى النووية الثمانية المعترف بها فى العالم.

لكن فى عَامٌ 2014، أثارت سياسة الولايات المتحدة المُتمثلة فى حماية البرنامج النووي الإسرائيلي جدلا واسعا، ويرجع ذلك جزئيا الي كونها لعبت دورا فى الانتقادات المُوجهة الي باحث معروف فى مختبر وطني للأسلحة فى شهر يوليو/تموز مـن ذلك العام، بعد نشره مقالا أقرَّ فيه بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، بينما اشتكى بعض العلماء والخبراء أيضا مـن ان عدم صراحة الحكومة الأميركية فى هذا الشأن يُعقِّد حملتها البارزة لمنع تطوير أسلحة نووية فى إيران، فضلا عَنْ التخطيط الذى تقوده الولايات المتحدة لاتفاقية محتملة لحظر الأسلحة النووية فى اى مكان فى المنطقة.

ومع ذلك، فإن الصمت الأميركي فى هذا الصدد اثناء ثابتا لا يتزعزع قيد أنملة. ومن جانبه، أوضح مسؤول كثير لاحق فى وزارة الخارجية الأميركية، الذى تعامل مع القضايا النووية اثناء ادارة بوش، ورفض ذكر اسمه نظرا للحساسية السِّيَاسِيَّةُ المحيطة بهذا الموضوع قائلا: “لن نعترف على نحو قاطع بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، بل يتعين علينا التعبير عَنْ ذلك بصياغة أخرى تميل أكثر الي الافتراض أو التكهن بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية”.

ثم جاء بعد ذلك باراك أوباما فى أول مؤتمر صحفي له فى البيت الأبيض عَامٌ 2009 ليؤكد استمرار هذه السياسة الأميركية التى تبنَّتها الدولة منذ أربعة عقود وما زالت مستمرة حتـى الان. فعندما سألته الصحفية هيلين توماس عما إذا كان يعلم بوجود اى دول فى الشرق الأوسط تمتلك أسلحة نووية، جاء رد أوباما كالتالي: “بينما يتعلق بالأسلحة النووية، إنني أرفض التكهن بوجودها”. تصرف أوباما فى ذلك الوقت كَمَا لو ان الوضع المعروف لإسرائيل باعتبارها دَوْلَةٌ تملك فى حيازتها أسلحة نووية لا يتعدى كونه مجرد شائعات وافتراضات.

أصبح هذا الحذر نهجا أساسيا تبنَّاه الجميع بما فيهم بول بيلار، ضابط المخابرات الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط، الذى اتضح تحفظه الشديد عند الإشارة المباشرة أو العلنية الي ترسانة إسرائيل النووية، لدرجة أنه عندما كتب مقالا فى مجـلة “ذا ناشونال إنترست” (The National Interest) تحت عنوان “الامور المشتبه بها التى يجب عدم ذكرها عَنْ إسرائيل”، أشار الي الرؤوس النووية فى جميع ارجاء المقال باسم الكمكوات “kumquats” (التى تعني البرتقال الذهبي).

وحتى الكونغرس الأميركي اثناء حذرا بشأن مناقشة هذا الموضوع. فعندما نشرت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ تقريرا عَامٌ 2008 بعنوان “مجموعه مـن ردود الفعل: تجنب سباق التسلح النووي فى الشرق الأوسط”، تضمن المقال فصولا عَنْ السعوديه ومصر وتركيا، ولكن لسبب ما لم يتطرق الي ذكر إسرائيل ضوء هذه الدول. فى ذلك المقال المؤلف مـن 61 صفحة، تجاهل المؤلفون تماما ترسانة إسرائيل النووية، وكل ما فعلوه هو ذكرها فى هامش صغير يشير الي ان هذه الترسانة مجرد “تصور أو افتراض” لا أكثر.

بشكل أكثر تحديدا، جاء فى نص المقال القول: “رغم ان إسرائيل لم تعترف رسميا بامتلاكها أسلحة نووية، فثمة اتفاق واسع على ما يبدو فى منطقه الشرق الأوسط وبين الخبراء فى الولايات المتحدة بأن إسرائيل تمتلك عددا مـن الأسلحة النووية. وبالنسبة لدول الجوار، فىُعَدُّ هذا التصور أكثر اهميه بالنسبة لهم لانه سيلعب دورا رئيسيا فى تشكيل السياسات واتخاذ القرارات”.

البيروقراطية لا تتقبل الصراحة

قدَّم دويل اثناء مقاله تقييما لاذعا للسياسة النووية الغربية حينما اعلن: “لم تردع الأسلحة النووية مصر وسوريا عَنْ مهاجمة إسرائيل 1973، ولم تُثنِ العراق عَنْ مهاجمة إسرائيل اثناء حرب الخليج 1991”. (الصُّورَةُ: رويترز)

على الجانب الآخر، قد يتمكن كبار المسؤولين السابقين فى البيت الأبيض أو على مستوى مجلس الوزراء -على غرار روبرت غيتس، الذى صرَّح بأن إيران محاطة بقوى تخفي فى جعبتها أسلحة نووية، مثل إسرائيل- مـن النجاة فى النهايه بشكل أو بآخر بعد تصريحاتهم، لكن البيروقراطية لا تتقبل صراحة المسؤولين الصغار، وهو ما اتضح مع جيمس دويل، الخبير النووي البارز فى مختبر لوس آلاموس الوطني، الذى تعرَّض للانتقاد بعد نشره مقالا فى شهر فبراير/شباط عَامٌ 2013 بمجلة “سرڤايڤل” (Survival) البريطانية، يعبِّر فيه عَنْ وجهة نظره التى تتعارض قليلا مع السياسة الرسمية للحكومة الأميركية.

قدَّم دويل اثناء مقاله تقييما لاذعا للسياسة النووية الغربية حينما اعلن: “لم تردع الأسلحة النووية مصر وسوريا عَنْ مهاجمة إسرائيل فى عَامٌ 1973، ولم تحظر ايضا الأرجنتين مـن مهاجمة الأراضي البريطانية فى حرب جزر الفوكلاند عَامٌ 1982، كَمَا أنها لم تُثنِ العراق عَنْ مهاجمة إسرائيل اثناء حرب الخليج عَامٌ 1991”. لكن هذه التصريحات أثارت غضب رؤسائه فى مختبر الأسلحة النووية، كَمَا أنها أجَّجت استياء أحد الموظفين الجمهوريين فى لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب.

رغم تقييم ثلاثة متخصصين فى مجال السرية مقالة دويل وتأكيدهم أنها لا تتضمن اى معلومات سرية، فقد قرر مسؤولون مهمون ان يتجاوزوا تقييم هؤلاء المتخصصين وادّعوا حدوث انتهاك غير محدد، واستخدموه مبررا لمعاقبة دويل، وحجبوا هذه المقالة باعتبارها مقالة سرية بعد نشرها. ولم يكتفوا بذلك، بل خصموا مـن راتبه وفحصوا حاسوبه الموجود فى المنزل، وفي نهاية المطاف طردوه مـن العمل. وبعد ذلك، صرَّحوا بأن طرده لم يكن مرتبطا بمحتوى المقال، لكنَّ دويل ومحاميه يعتقدان ان طرده كان بالتأكيد عقابا لتشكيكه فى المبادئ الأميركية للردع النووي.

جيمس دويل، الخبير النووي البارز فى مختبر لوس آلاموس الوطني (الصُّورَةُ: مواقع التواصل)

لم يبُح دويل ولا زملاؤه عما إذا كانـت الجملة الواردة فى مقالته حول ترسانة إسرائيل مـن الأسلحة النووية هى التى أثارت استفزاز المسؤولين ودفعتهم الي توجيه انتقادات مفرِطة لهذه المقالة باعتبارها انتهاكا أمنيا مـن وجهة نظرهم، ومع ذلك افترض العديد مـن الخبراء المستقلين أنها كانـت السبب وراء ذلك. وبمرور الأيام، ظهر تفسير آخر محتمل للأسباب التى أفضت الي معاملة دويل على هذا النحو السيئ، وهو ما أوضحته تصريحـات ستيفن أفترجود، مدير مشروع السرية الحكومية فى اتحاد العلماء الأميركيين.

اكتشف أفترجود ان وزارة الطاقة الأميركية استشهدت بمعلومات محددة لتصنيف وثائق دويل، ونبعت هذه البيانات فى الأصل مـن قوية تصنيفية تحمل الرقم “WNP-136” (وهي قوية سرية ترتبط بقدرات الدول الأجنبية فى مجال الطاقة النووية). ورغم ان نص الوثيقة ذاتها ليس عاما أو متاحا للجمهور، اثناء أفترجود يؤمن بأن التلميحات فى هذه القضية توضح ان الإشارة الوحيدة التى أوردها دويل بخصوص برنامـج نووي أجنبي حساس كانـت ترتبط بإسرائيل، وهو السبب الذى استخدمته المختبرات ضده على الأرجح.

بداية المشروع

كتب المؤرخ أڤنر كوهين ان التزام الولايات المتحدة بسياسة عدم الاعلان الرسمى عَنْ وجود أسلحة نووية فى إسرائيل يبدو أنه نشأ بعد اجتماع جرى فى سبتمبر/أيلول 1969 بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير. (غيتي)

وفقا لمبادرة التهديد النووي (Nuclear Threat Initiative) (وهي منظمة غير ربحية فى واشنطن تتعقب تطورات الأسلحة النووية)، فإن برنامـج الأسلحة النووية الإسرائيلي قد بدأ فى الخمسينيات، ويُعتقد ان إسرائيل بدأت بتجميع أول ثلاثة أسلحة نووية لها اثناء الأزمة التى أدت الي حرب عَامٌ 1967. وعلى مدار عقود، تبنَّت إسرائيل سياسة اطلقت عليها اسم “amimut”، التى تعني الغموض أو عدم الوضوح للإشارة الي برنامجها النووي. ومن اثناء اعتمادها على التلميح بامتلاكها أسلحة نووية دون تأكيد ذلك، تسعي إسرائيل الي ردع أعدائها عَنْ شن هجمات كبرى وفي الوقت نفسه تثبيط اى جهود لتطوير ترسانة نووية مشابهة.

كتب المؤرخ الإسرائيلي الأميركي أڤنر كوهين ان التزام الولايات المتحدة بسياسة عدم الاعلان الرسمى عَنْ وجود أسلحة نووية فى إسرائيل يبدو أنه نشأ بعد اجتماع جرى فى سبتمبر/أيلول 1969 بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير. ورغم عدم وجود نص مكتوب لهذا الاجتماع، صرَّح كوهين بأن مـن الواضح ان الزعيمين توصلا الي اتفاق ينص على ان إسرائيل لن تُجري اختبارات نووية لأسلحتها أو تعلن عَنْ وجودها، بينما لن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل للتخلي عَنْ هذه الأسلحة أو للتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وستتوقف عَنْ تفتيش موقع ديمونا الذى يضم مركز أبحاث الطاقة النووية فى منطقه النقب فى إسرائيل.

ونتيجة للصفقة، تبنَّت واشنطن سر إسرائيل كَمَا لو كان سرها الخاص، وفي النهايه قبلت الولايات المتحدة بأن تكون سياستها الرسمية مماثلة للسياسة الإسرائيلية بينما يتعلق ببرنامجها النووي، وهو أمر عارضه بشدة بعض المسؤولين الأميركيين الكبار فى البداية. اما الرواية الرسمية المتكررة التى تتداولها الجهات الإسرائيلية على نحوٍ ثابت فتؤكد ان “إسرائيل لن تكون أول دَوْلَةٌ تُدخل الأسلحة النووية الي الشرق الأوسط، فضلا عَنْ دعمها لفكرة ان تكون هذه المنطقة خالية مـن جميع أسلحة الدمار الشامل بعد تحقيق السلام”.

لكن ظهرت إحدى المفارقات العجيبة عندما سعى مساعدو نيكسون الي الحصول على ضمانات بأن هذا الوعد يعني ان إسرائيل لن تصنع فعليا اى قنابل نووية، لكن رد المسؤولين الإسرائيليين كان عبارة عَنْ ان جملة “إدخال أسلحة نووية” تحمل معنى مختلفا، وهو ان إسرائيل لن تُجري اختبارات علنية للقنابل النووية أو تعترف بوجودها رسميا، وهو ما يترك مجالا واسعا لترسانتها غير المُعترف بها لتعيث فسادا دون رقابة أو حساب. وفي يوليو/تموز عَامٌ 1969، كتب مستشار الأمن القومي آنذاك هنري كيسنغر الي الرئيس نيكسون فى إحدى المذكرات التى لخصت سياسة واشنطن تجاه برنامـج الأسلحة النووية الإسرائيلي قائلا: “ربما قد نرغب فى منع إسرائيل فعليا، لكن فى حال تعذر علينا تحقيق ذلك، فسيصبح ما نريده على الأقل هو منع الاعتراف الدولى بوجود أسلحة نووية لدى إسرائيل”.

موردخاي فعنونو، أحد الفنيين الذين عملوا فى موقع ديمونا الذى يضم مركز أبحاث الطاقة النووية الإسرائيلية. (غيتي إيميجز)

حتـى عندما قدَّم موردخاي فعنونو، أحد الفنيين الذين عملوا فى موقع ديمونا- الذى يضم مركز أبحاث الطاقة النووية الإسرائيلية-، أول تقرير علني مُفصّل عَنْ البرنامج النووي عَامٌ 1986، ونشر صورا التقطها هناك لمكونات الأسلحة النووية، رفضت الجهتان (الولايات المتحدة وإسرائيل) تغيير موقفهما أو سياستهما. وبعد اختطافه مـن إيطاليا، سجنته إسرائيل لمدة 18 عاما، أغلبها فى الحبس الانفرادي، ثم مُنع بعد ذلك مـن السفر الي الخارج أو التعامل مع الصحفيين الأجانب. وفي رسالة بريد إلكتروني متبادلة مع مركز النزاهة العامة (وهو منظمة صحافة استقصائية مهتمة بالكشف عَنْ إساءة استخدام السلطة والفساد فى المؤسسات العامة)، أشار فعنونو الي أنه لا يزال يقابل قيودا لكنه لم يخض فى تفاصيل.

على الجانب الآخر، امتدت سياسة أميركا فى عدم الوضوح بشأن البرنامج النووي الإسرائيلي الي القنوات الحكومية الخاصة، فقد أفاد مسؤول لاحق فى المخابرات الأميركية بأنه يتذكر الي اى مدى أصابه ذهول تام مـن غياب اى ذكر لإسرائيل فى قوية سرية تزعم أنها تصف جميع بَرَامِجُ الأسلحة النووية الأجنبية فى التسعينيات، ولهذا السبب أرسل الي زملائه شاكيا: “يبدو أننا بصدد مواجهه مشكلة حقيقية إذا لم نكن قادرين حتـى على الاعتراف بالحقيقة فى الوثائق السرية”. لكنه فى النهايه حصل على إشارة تسمح له بذكر الترسانة النووية الإسرائيلية ولكن على نحو طفيف وبصياغة مترددة وتقليدية.

وعلى المنوال ذاته، صرَّح غاري سامور، الذى شغل منصب كثير مستشاري الرئيس أوباما لشؤون منع انتشار الأسلحة النووية مـن عَامٌ 2009 الي عَامٌ 2013، ان الولايات المتحدة فضَّلت منذ مدة طويلة ان تتمسك إسرائيل بسياستها المعروفة بـ”الكتمان النووي” خوفا مـن زيادة التوترات فى منطقه الشرق الأوسط. يرى سامور ان اعتراف إسرائيل بوجود أسلحة نووية سيُعَدُّ أمرا استفزازيا قد يدفع بعض الدول العربية وإيران الي تطوير أسلحة نووية، لهذا السبب تميل الولايات المتحدة الي الغموض المتعمد. ولكن عندما سُئل سامور الذى يعمل حاليا بجامعة هارفارد عما إذا كانـت حقيقة امتلاك إسرائيل أسلحة نووية تُعَدُّ أمرا سريا، أجاب: “لا يبدو الامر بالنسبة إليّ سريا على الإطلاق”.

اثناء حاجز الصمت الرسمى للحكومة الأميركية قائما ولم يُكسَر إلا عَنْ طريق المصادفة، وذلك حينما أصدرت وكالة المخابرات المركزية (CIA) عَامٌ 1979 تقريرا استخباريا يتألف مـن أربع صفحات بعنوان: “آفاق مواصلة انتشار الأسلحة النووية”، وجاء فى نص المقال القول: “نعتقد ان إسرائيل أنتجت بالفعل أسلحة نووية، وذلك استنادا الي مخزونها الهائل مـن اليورانيوم، بالإضافة الي برنامجها لتخصيب اليورانيوم، واستثماراتها فى نظام صاروخي باهظ التكلفة قادر على حمل رؤوس حربية نووية”.

أثار المقال حينذاك موجة مـن العناوين الرئيسية، وكان مـن بينها هذا العنوان الذى تصدر صحيفة “نيويورك تايمز”: “صرّحت وكالة المخابرات المركزية عَامٌ 1979 ان إسرائيل تملك بحوزتها قنابل نووية”، بينما تَصدَّر عنوان آخر مشابه صحيفة “واشنطن ستار”: “تُعَدُّ إسرائيل عضوا فى النادي النووي منذ عَامٌ 1974 وفقا للدراسة التى أجرتها وكالة المخابرات المركزية”.

أحد المواقف المثيرة للسخرية هو ما حدث مع جون ديبريس، ضابط المخابرات المسؤول عَنْ مسائل انتشار الأسلحة النووية فى ذلك الوقت، الذى كان مـن واجبه مراجعة وتنقيح المواد السرية مـن المقال قبل نشره، لكنه أشار الي انتكاس فى عملية تجريد البيانات السرية فى المقال قبل نشره، وهو ما أدى الي تسرب معلومات سرية الي الجمهور بقوله: “إن الغريب فى الامر هو نشر الأجزاء التى فضَّلتُ حجبها، بينما حُجِبتْ الأجزاء التى كان مـن المفترض لها ان تخرج للعامة”.

يبدو ان الامر كان نوعا مـن الأخطاء الإدارية التقليدية بالنسبة لديبريس باعترافه قائلا: “يُعَدُّ ما حدث أحد الأنواع الشائعة للفشل البيروقراطي، فقد أساء الناس تفسير تعليماتي”. وأكَّد أنه -على حد علمه- لم يُعاقب اى شخص على هذا المخالفة، حتـى فى عَامٌ 2008، عندما حصل جهاز الأمن الوطني على نسخة مـن الوثيقة بموجب قانون حرية الحصول البيانات، اثناء هذا القرار دون تصحيح أو إلغاء.

لكن استمرار واشنطن فى رفضها لتأكيد ما هو واضح بأي طريقة أخرى، أفضى فى النهايه الي تجارب غريبة وصعبة خَاض غمارها أولئك الذين يبحثون عَنْ بيانات رسمية حول ترسانة إسرائيل النووية. وعن ذلك، يتذكّر برايان سيبرت، وهو أكبر مسؤول تنفيذي فى وزارة الطاقة الأميركية والخبير فى حماية أسرار الأسلحة النووية مـن عَامٌ 1992 الي عَامٌ 2002، أنه شاهد كومة مـن الأوراق تصل الي صعود مترين تقريبا تتضمن وثائق مـن وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة العدل، بالإضافة الي وزارة الطاقة، حول البرنامج النووي الإسرائيلي.

فى السياق ذاته، أكَّد جون فيتزباتريك، الذى شغل منصب مدير مكتب مراقبة أمن البيانات الفيدرالي منذ عَامٌ 2011، ان الولايات المتحدة تعتـبر جوانب الوضع النووي لإسرائيل ضوء أمورها السرية التى يجب الحفاظ عليها بقوله: “نحن نعلم ذلك مـن السلطات المعنية بالأمور السرية فى الوكالات التى تتعامل مع تلك المواد”، ولكنه امتنع عَنْ تقديم تفاصيل أكثر حول هذا الامر. وفي الوقت الذى استمرت فيه الولايات فى تجنب هذا الموضوع، تبنَّت الجهات الإسرائيلية الرسمية الموقف ذاته، حيـث أكَّدت كيري برودي، مديرة الاتصالات فى السفارة الإسرائيلية بواشنطن، عدم وجود اى فرد فى السفارة يمكنه مناقشة الوضع النووي لإسرائيل، وكتبت فى رسالة بالبريد الإلكتروني تقول فيها: “لسوء الحظ، ليس لدينا اى تعليق يمكننا الإدلاء به فى الوقت الحالي”.

لكن مـن جانب اخر، بدا المتحدث السابق للكنيست الإسرائيلي “أفراهام بورغ” أقل تحفظا اثناء مؤتمر عُقد فى شهر ديسمبر/كانون الاول عَامٌ 2013 بحيفا، حينما أشار الي ان إسرائيل تمتلك أسلحة نووية وكيميائية، واصفا سياسة الغموض بأنها “بالية وطفولية”. ومع ذلك، رفض روبرت غيتس، المدير السابق للـ(CIA) مناقشة هذه القضية، غير ان عددا متزايدا مـن الخبراء الأميركيين يتفقون مع بورغ فى عدم تحفظه إزاء سياسة الغموض هذه.

وعن هذا الموضوع، كتب بول بيلار، ضابط المخابرات الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط فى إحدى مقالته، ان السياسة الأميركية المستمرة منذ 45 عاما لحماية البرنامج الإسرائيلي لم يعد يُنظر اليها فى جميع ارجاء العالم على أنها سياسة ذات معايير مزدوجة فحسب، بل بات العالم يرى الولايات المتحدة وهي تعيش دَاخِلٌ كذبة كبيرة نسجتها بنفسها. وبالتالي لم تعد تصريحـات أميركا بشأن الأسلحة النووية تُؤخذ على محمل الجد، بل وفي بعض الأحيان أصبحت تُواجَه بالازدراء ما دامت تتحدث عَنْ الأسلحة النووية الإسرائيلية باسم “البرتقال الذهبي”.

ومن جانبه، عبّر فيكتور جيلينسكي، الفيزيائي والعضو السابق فى لجنة التنظيم النووي، عَنْ استيائه مـن تظاهر الولايات المتحدة بالجهل بشأن قنابل إسرائيل النووية، وهو ما أوضحه فى كتابه الأخير الذى ذكر فيه ان موقفا كهذا لم يعد مقبولا، فالمعايير المزدوجة الواضحة باتت تقوِّض الجهود المبذولة للسيطرة على انتشار الأسلحة النووية فى جميع ارجاء العالم. بينما علّق جي ويليام ليونارد، الذى كان مديرا لمكتب مراقبة أمن البيانات فى عهد جورج بوش مـن عَامٌ 2002 الي عَامٌ 2008، قائلا: “أحيانا تقوِّض هذه السياسات ذات المعايير المزدوجة نظام ترتيب البيانات السرية، فقد أضحى الامر غريبا ومحرجا للغاية باستغلال هذا النظام لحماية سر معروف رسميا”.

فى نهاية المطاف، يختتم دانا إتش ألين، مُحرر المقال الذى سبق وكتبه دويل فى مجـلة “سرڤايڤل” (Survival)، بتعليق حديث له نشره المعهد الدولى للدراسات الإستراتيجية فى لندن: “إن اى شخص لديه معرفة سطحية بالشؤون الدولية، يعلم بالتأكيد عَنْ هذه الأسلحة”. كَمَا أنه وصف ادعاء الحكومة باحتواء المقال على أسرار أمنية بأنه ادعاء “ساذج”، وأنهى حديثه بأن محنة دويل على أيدي السلطات كانـت تجربة غير منطقية ولا تقل اضطرابا عَنْ أعمال كافكا الأدبية (التى اشتهرت بتصوير الْأَوْضَاعُ المُعقدة المضطربة والتحكم البيروقراطي الذى يتغلغل فى حياة الأفراد)*.

_____________________________________

* ملاحظة المترجم

ترجمة: سمية زاهر

هذا المقال مترجم عَنْ The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عَنْ موقع ميدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى