الاخبار العربية والعالمية

مفهوم التحرُّر كهدف جوهريّ للمعركة الدولىّة على فلسطين | آراء سام نيوز اخبار

|

أحدثتْ غزّةُ أزمةً ونقاشًا دوليًّا فى المُستويات المُختلفة. فى الجانبِ السياسيِّ، ازدواجيّةُ الموقف الغربيّ تتجلّى بأكثر صورِها وضوحًا منذ انتهاء الحِقبة الاستعماريّة. وفي الجانبِ الاعلاميّ، انكشافٌ فاضحٌ فى فوضى البيانات وتوظيفِها، وعجز وسائل الإعلام عَنْ مجاراة الموقف السياسيّ، مقابلَ بساطة الحقيقة. اقتصاديًا، كلُّ المِنطقة والعالم يعيد تقييم جدوى الاستثمار فى المِنطقة دون حلّ الصراع الفلسطينيّ- الإسرائيليّ، وهو جوهر اتفاقات التطبيع الاخيره التى انهارت أحلامُها فى لحظة. أخلاقيًا، أحزابُ السياسة التقليدية، مـن يمينها لشمالها، فى صراعٍ بين التزامِها بمصالح مؤسّسة الحكـم العميقة وبين قواعدها الشعبية. الليبرالية الغربية فى أعمق مآزقها، حيـث يتكهّن بعضُ علماء العَلاقات الدولية بأنَّها دخلت مرحلة ما بعد الأفول.

ما أنتجته ماكينات السياسة والإعلام الغربي

ينعتقُ الغربُ مـن عقالِه فى الموضوع الفلسطينيّ عند كل ملمح فى إمكانيّة إعادة إنتاج نضال الفلسطينيين، فى كونه نضالَ تحرر وطنيّ. وهو ما يبرزُ فى كل أشكال التخويف والفوبيا التى تنتجُها ماكيناتُ السياسة والإعلام الغربي تجاه خطاب المقاومة الفلسطينية. تمَّ إنهاء فكرة التحرّر مع إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية عبر مسارات تسوية مخاتلة، أعطتِ المنظمةَ سُلطةً بدون سيادةٍ، وشعبًا بدونِ أرضٍ. وقد صنعَت أوسلو السلطةَ الفلسطينية لتنقل النضال الفلسطيني مـن كونه تحررًا الي مشروع بناء حكـم ما تحت قواعد الهيمنة الإسرائيلية- الغربية. بالنسبة للرعاة الدوليين لإسرائيل، تكمن إشكالية هذه الجولة مـن الحرب على غزة- وبدرجة أقلّ جولات القتال السابقة منذ 2008- فى انَّها تعيد المشهدَ بدرجة الي ما قبل أوسلو، الي مرحلة التحرّر الوطنيّ. وهي إشكاليّة تنبع مـن كون فكرة العمل المسلح امام إسرائيل- بغضّ النّظر عَنْ الاتفاق أو الاختلاف معها أو جدواها أو كونها امام عسكريين أو مدنيين- هى بذاتها معضِلة؛ ليس قلقًا مـن القوّة غير المتكافئة أبدًا، وإنما الخوف مـن إمكانية تجاوز تعليب القضيّة الفلسطينيّة فى كونها أزمةً إنسانيةً وإعادة رسمها كحركة تحرُّر.

كسر الحصار

لم يكن لدى الغرب مشكلةٌ كبيرة مع فكرة سفن تبدأ مـن أوروبا وتحمل مساعدات تحت عنوان: “كسر الحصار عَنْ غزة”. لم يكن لديه مشكلة فى مئات الحملات الخيريّة التى انطلقت مـن اجل غزة. ونسبيًا يتغاضى قليلًا عَنْ إدانات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المتكررة لإسرائيل، مع محاولات لتدجين المجلس. ولا يتحرّك بقوَّة لكبح تصاعد اخبار الإدانة الدولىَّة جاء الى منظمات حقوق الإنسان لممارسات الاحتلال، رغم انَّها لا تعجبه. لكنه يَستشْرِس فى تجنيد مستشاريه القانونيين للبحث فى أدقّ تفاصيل الثغرات القانونيَّة فى منظومته الديمقراطية مـن اجل منع رفـع علم فلسطينيّ، أو منع متضامنين مـن الهتاف: “فلسطين حُرّة مـن البحر الي النهر”. الهتافُ الذى بات يشغل حكوماتٍ بأكملها، وتحوّل الي نقاش فى أعلى مستويات صناعة القرار والإعلام فى أوروبا، مـن اجل تفسيره واستخراج ما يمكن استخراجه مـن فقه وأصول فى عدوانية الكلمات وتداعياتها. يرى كوفيةَ الفلاح الفلسطينيّ- التعبير الثقافي الهُوِيّاتي- مـن علامات الكراهية؛ لأنَّها ارتبطت بحقبة الثورة الفلسطينية.

الجوهريُّ فى عدوانيّة الغرب للفلسطيني، يتركّز فى حربه على كل ما يشير الي قضيّته كمشروع تحرّر وطنيّ. ولا بأسَ فى دعـم كل ما يجعلها فى نطاق الأزمة الإنسانية. يمكنُك الحديث حتـى الصباح عَنْ الجرائم بحقّ الأطفال، ولكن إياك ان تذكر شيئًا عَنْ طفل رمى حجرًا باتجاه سيّارة عسكرية للاحتلال. قد تسمح لك بعض المنصّات بأن ترفعَ صورة أطفال فلسطينيين مُمزقين بفعل آلة القتل الإسرائيليَّة، ولكن ليست صورة فارس عودة، وهو يرمي حجرًا على دبّابة إسرائيليّة. تحدّثْ بحُرية عَنْ القانون الدولى الذى يحمي المدنيين وحقوقهم، وعن القانون الذى يجرّم الاحتلال وممارساته، لكن إياك ان تتطرّق للقانون الدولىّ الذى يسمح بمقاومة الاحتلال، أو الذى يعطي شعبًا تحت الاحتلال حقًا فى الدفـاع عَنْ النفس. وضمن هذه الإطارات، يتم التضييق على حركة التضامن العالميّة مع فلسطين؛ بهدف صناعة قوالب للخطاب التضامني يشبه الي حدّ بعيد نداءات الأمم المتحدة للتضامن مع ضحايا اىّ زلزال أو عاصفة جويّة.

نزع صفة التحرر

عِمادُ المواقفِ الغربيّة، هو نزعُ صفة التحرّر عَنْ الجمهور الفلسطينيّ ونضاله، والقتال مـن اجل ألا تتحوّل رواية المأساة الفلسطينية الي ذلك. ما حدث فى 7 أكتوبر، مرعبٌ بالنسبة لإسرائيل والغرب مـن هذه الزاوية، أكثر مـن كونه عملًا استهدف فئاتٍ مدنيةً ما، وألحق خسائر بشرية ومادية، أو فى كونه وضحًا عَنْ فشل المنظومة الأمنيّة والعسكرية الإسرائيلية، جلب لها إذلالًا غير مسبوق وغير متوقّع، مع اهميه ذلك كله فى تفسير المشهد. ولذلك كان نزعُ السياق عَنْ عمليّة 7 أكتوبر، قاعدةً راسخة فى محدّدات الخطاب السياسي والإعلامي الغربي.

يكتب الصحفى البريطاني الأشهر ” أندرو مار”- الذى كان المحررَ السياسي لـ “بي بي سي” ومقدمًا لأهم برامجها السِّيَاسِيَّةُ- فى مقاله على موقع “نيوز ستيت مان” بالحرف: “…، ليس هذا وقت الصحافة غير الجدلية. نُطالب بعدم الربط بين تاريخ الاحتلال الإسرائيليّ والإرهاب البغيض الذى شنّته حماس. لكن بدون ضوءٍ، بدون شرحٍ، كل ما نبقى معه هو فوضى شرّ بشري لا يمكن تفسيره، ولا يوجد معه مخرج سياسي”. النخبة السِّيَاسِيَّةُ والإعلامية الغربية، تدرك تمامًا ان ما يحدث اليـوم هو ثمن سياسات ممتدة فى تأمين حصانة كاملة لانتهاكات إسرائيل، ولسلب الفلسطينيين حقَّهم فى الأرض وفي النضال، وفي التعبير عَنْ ذلك. إنَّهم يَعُون حقيقة المشهد وبشاعته وتأثيراته، لكن يُنظر لما بعد الحرب، عندما يتقدّم المجتمع الدولى لطرح مشاريع حلّ سياسي، يريدونها ان ترتكز على قاعدة الأزمة الإنسانية للفلسطينيين، لا على قاعدة المطالب التحرّرية كشعب له وجود ومطالب وطنية فى أرض يملكها منذ آلافِ السنين. فانحيازُ الغرب، امامّ الفلسطينيين، ليس تجاهلًا لحاضرهم ومأساتهم فقط، وإنما سرقة لتاريخهم كشعبٍ يسيرُ مـن اجل التحرّر مـن الاحتلال وتحقيق استقلاله الوطنيّ. كَمَا انَّ الدعـم الإنساني- دون جدل حول حجمه وقيمته، الذى يقدّمه الغرب لسكّان غزة- سيبدو إجابة معقولة تجاه مأساة إنسانيّة هو شريك بها، بينما لن تبدو مساعداته الإنسانية كافية للردّ على مطالب الحقّ فى التحرّر الوطني.

الجمهور يريد

فى نظر النخبة السِّيَاسِيَّةُ والإعلامية الغربية، فإنَّ الجمهور الفلسطيني يريد مبادرات امم متحدة، وكالة أونروا، جمعيات خيرية، مؤتمرات إعادة إعمار… إلخ. لكن لا يريدُ الي حركة تحرّر وطني ولا بأي مستوى، لا سلمية ولا مسلحة. وخير دليل على ذلك، هو إمعان الاحتلال فى تدمير حتـى بنى السلطة الفلسطينية ومكانتها ككيانية سياسية، والإبقاء على دورها الأمني والخِدميّ الذى يعفي إسرائيل مـن استحقاقات احتلالها. حيـث ترسّخت السلطة كجهاز بيروقراطي يعمل بقدر ما يحصل على أموال مـن الدول الغربية المانحة. وساهم الغرب مع الاحتلال الإسرائيليّ فى منع قيام استدامة اقتصادية أو سياسية للسلطة. هذا لا علاقة له بجدليّة الدور الوطني والتمثيلي للسلطة الفلسطينية، وفي كونها لم تعد تمثلُ آمالًا تحرريّة للفلسطينيين، لكن واقعها اليـوم هو جزءٌ مـن التطرّف الصهيوني الإسرائيلي والغربي امام فكرة وجود جماعة لها كرامة وطنية وتطلّعات سياسية.

هذه الحرب ليست فقط امامّ الجمهور الفلسطينيّ كجماعة وطنية، إنَّما هى حرب امامّ فكرته الأصيلة فى التحرّر. والتّضييق الغربيّ على خطاب حركة التضامن الدولية مع فلسطين، هـدفُه عدمُ السماح لرواية التحرّر الفلسطينيّ بالبروز مرة اخري، مع إبقائِها فى افضل الحالات أزمة إنسانية تحتاجُ حلًّا مـن نوعها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى