الاخبار العربية والعالمية

ماذا يخبرنا الصمود الأسطوري فى غزة؟ | آراء سام نيوز اخبار

بعد مرور زهاء شهر ونصفٍ على بدء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، ما زال الاحتلال غير قادر على تقديم صورة نصر ولو مزعومًا فى القطاع؛ رغم ما اقترفه فيه مـن مجازر وجرائم حرب، كَمَا ان هذه الاخيره لم تستطع إجبار سكان القطاع على الهجرة؛ ما أفشل حتـى اللحظة مشروع التهجير. صمود شعبي وعسكري للمقاومة يحمل المزيد مـن الدلالات ويضع على الجميع مسؤوليات محددة.

خطط الاحتلال

منذ اللحظات الأولى لتخطيط عدوانها على قطاع غزة، أعلنت سلطات الاحتلال عَنْ اهداف ذات سقف مرتفع جدًا بخصوص قطاع غزة والمقاومة فيه، وخصوصًا حركة حماس. كان الهدف المعلن للعدوان يدور حول اجتثاث حركة حماس وذراعها العسكرية كتائب القسام تمامًا، وإعادة احتلال القطاع، وفرض واقع سياسي جديد بعد الحرب، وإطلاق سراح جميع الأسرى لدى المقاومة دون قيد أو شرط.

إضافة لذلك، وبما يتناغم معه، فقد صدرت تصريحـات عَنْ القيادات “الإسرائيلية” بضرورة إفراغ قطاع غزة مـن السكان وانتقالهم للعيش فى سيناء فى مصر، وهو أمر تبنّته بشكل واضح الإدارة الأميركية، وسعى وزير خارجيتها أنتوني بلينكن فى جولاته الإقليمية لإقناع دول المنطقة به، وهو ما لم ينجح فيه حينه.

وإذا كانـت الأهداف العسكرية للاحتلال قد تراجعت بشكل لافت مع الوقت تحت ضغط المقاومة الفلسطينية- فتحول الاجتثاث الي إضعاف قدرات حماس وتحجيم قدرتها على التهديد وشن العمليات فى المستقبل، وتحول الاعلان سراح الأسرى الي تحرير أكبر عَدَّدَ ممكن منهم ثم الي التعامل مع ملفهم، ثم الي الإقرار صراحة بضرورة عـقد صفقة تبادل- إلّا ان خُطة التهجير فى المقابل ما زالت قائمة وضمن الخيارات وإن تراجع تداولها فى الإعلام.

فقد تراجعت الإدارة الأميركية، تحديدًا، عَنْ هذا الطرح بسـبب الرفض الصريح والحاسم لمصر وباقي الدول العربية التى اجتمع معها بلينكن وَفق المعلن، ولكن أيضًا بسـبب صمود الناس فى أماكنها واستبسال المقاومة بشكل لم يكن متوقعًا أميركيًا، وقد صدرت تصريحـات مـن الرئيس الأميركي بضرورة بقاء سكان غزة فى القطاع. ورغم ذلك، يمكن القول: إن هذا الخيار ما زال مطروحًا بالنسبة للاحتلال، وهذا ما يدعمه الموقف الميداني.

ذلك ان الاحتلال ركز على شمال قطاع غزة حصارًا وقصفًا وتدميرًا؛ بهدف إجبار الناس على الانتقال للجنوب الذى صرح أنه “آمن”، وأعلن أكثر مـن مرة عَنْ انتقال القسم الأكبر مـن سكان الشمال للجنوب، بينما بدا وكأنه المرحله الأولى مـن الخطة. بينما يدخر مرحلة ثانية للجنوب لإجبار الناس حينها على الهجرة خارج الحدود نحو مصر مـن معبر رفح، حيـث يعمل لأن يكون المنفذ الوحيد المتاح لهم للخلاص مـن آلة القصف والحصار والتجويع.

الصمود

رغم كل ما سبق- بما فى ذلك قتل كل إمكانية للحياة فى شمال قطاع غزة على وجه التحديد مثل قصف المستشفيات، وإخراجها مـن الخدمة، والمخابز ودور العبادة والطرقات والمدارس التابعة للأمم المتحدة ودور الإيواء وغير ذلك، وعدم السماح بدخول اى مساعدات الي هناك، بما حمل رسالة واضحة بأن المنطقة لم تعد ولن تكون صالحة للحياة- لم تكن النتيجة كَمَا خطط الاحتلال، وكما يمكن ان يكون التوقع المنطقي.

ففي السابع عشر مـن نوفمبر/ تشرين الثانى الحالي- اى بعد 40 يـومًا كاملة مـن العدوان الشامل- اعلن الجهـاز المركزي للإحصاء الفلسطيني: إنَّ 400 ألف شخص فقط مـن أصل 1.2 مليون شخص كانوا يسكنون محافظتَي الشمال قبل العدوان قد نزحوا الي المحافظات الاخرى فى الوسـط والجنوب، وإن 807 آلاف شخص ما زالوا حتـى اللحظة يعيشون فى محافظتي غزة وشمال غزة، ما يدحض الدعاية “الإسرائيلية” بأن الشمال قد فرغ مـن السكان المدنيين.

وفق الحسابات المادية والمنطقية، يبدو هذا الصمود خارج أطر المعقول، ويحيل على صمود أسطوري واستثنائي بدون اقل مبالغة. ففي بقعة جغرافية ضيقة، محاصرة بالكامل- ممنوع عنها دخول الغذاء والماء والدواء، وغير ذلك مـن مقومات الحياة الأساسية زهاء شهر ونصف، وهي تُمطَرُ بكل أنواع الموت مـن الصواريخ والقذائف والحمم- مـن الصعب تصور التشبث بالمكان الذى يعني انتظار الموت قتلًا أو نزفًا أو جوعًا. ومن البديهي ان ذلك لم يكن ما توقعه الاحتلال الذى ضرب بكلّ القوانين الدولية عُرض الحائط، بما فى ذلك أعراف الحرب، وارتكب عَدَّدًَا غير محدود مـن جرائم الحرب، بما يمكن ان يرقى لجريمة الإبادة الجماعية، فى سبيل تحقيق نصر سريع وحاسم عسكريًا على المقاومة، وديمغرافيًا مـن اثناء تهجير الناس.

إفشال سكان القطاع- وخاصة سكان شماله- مخططَ الاحتلال حتـى اللحظة لا ينفي المأساة الإنسانية الكبيرة، والحديث عَنْ الصمود لا يلغي المعاناة الاستثنائية التى يواجهها الناس هناك دون اقل مؤشر على قرب الفرج وفك الحصار عنهم أو إجبار الاحتلال على الإيفاء بالتزاماته كقوة احتلال بالحد الأدنى.

مـن جهة ثانية، مرَّ شهر ونصف دون ان يستطيع الاحتلال ان يرصد صورة “نصر” واحده ولو ادعاءً، بينما تكبد خسائر كبيرة جدًا- تفوق ما يضطر لإعلانه- فى الجنود والضباط والعتاد والآليات، وبإحراج إعلامي واضح بسـبب توثيق المقاومة عملياتها ومصداقيتها المكتسبة فى هذا المجال، إضافة لمعنوياتها العالية، بينما يصدر عنها مـن تصريحـات، ومؤشرات سلامة بنيتها العسكرية وقدرتها على السيطرة وإدارة المعركة، ولعلّ الإعلان عَنْ صفقة تبادل الأسرى، ما يعزز هذا التقييم إذ يحمل دلالة خضوع الاحتلال فى هذا الجانب.

دلالات ومسؤوليات

فى مُقَدَّمَةٌ الدلالات الواضحة لهذا الصمود ان المقاومة قد أعدت عدتها بشكل ملحوظ لمعركة مـن هذا النوع، وبنفَس طويل عسكريًا ولوجستيًا وإعلاميًا، وأن الفلسطينيين مـن سكان القطاع متمسكون بأرضهم، واثقون بمقاومتهم، مستفيدون مـن دروس الماضي، بما أنتج لديهم إصرارًا على عدم تكرار كارثة النكبة والتهجير القسري، رغم ما يعانونه مـن ظروف غير إنسانية، وما يتعرضون له مـن جرائم حرب.

لكن الصمود، مـن جهة ثانية، لا يقوم فقط على الإعداد المسبق، ولا على الإيمان والإصرار وحسب، بل له مقومات ينبغي تحصيلها وتعزيزها وإلا نفدت و/أو دمرت مع الوقت. وعليه، فإنه مـن المهم الإشارة الي ان إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية تتحدث عَنْ مقتل طفل كل عشر دقائق كمعدل؛ بسـبب القصف “الإسرائيلي”، ما يعني ان عدّاد الوقت فى غزة لا يحسب بالساعات والدقائق وإنما بالأرواح والدماء.

وعليه، يضع هذا المشهد الدول العربية والإسلامية امام مسؤولياتها كدول شقيقة وصديقة، وكدول جارة، وكأطراف حريصة على الأمن القومي العربي والاستقرار فى المنطقة، وكذلك كجهات حريصة على عدم استمرار المأساة الإنسانية، وإلا فإن الكثيرين سيعدون ذلك موقفًا متواطئًا وليس فقط متخاذلًا إزاء أهل غزة.

إن الأولوية الأولى لجميع الأطراف ينبغي ان تكون إدخال المساعدات للناس فى شمال القطاع وجنوبه- بدون تمييز أو تسليم باشتراطات الاحتلال- بوقف الاعلان نار وإلا فبدونه، فذلك هو الواجب الإنساني مـن جهة، وهذا ما يمكن ان يعزز صمود الناس مـن جهة ثانية. وهنا، فسبعٌ وخمسون دَوْلَةٌ عربية ومسلمة ستكون امام اختبار أخلاقي كثير بعد اتخاذ القمة العربية – الإسلامية المشتركة قرارًا بكسر الحصار وإدخال المساعدات، وهو القرار الذى ما زال تطبيقه ينتظر، إذ لم يحدَّد به توقيت أو آلية تنفيذ.

وعلى الأطراف الباقية، مـن أحزاب سياسية وتيارات وحركات ونخب وشعوب وأفراد، ألا تكتفي بالحزن على المأساة الإنسانية والفخر بأداء المقاومة، وبالتالي البقاء فى مدرجات الْمُشَاهِدِينَ والتصفيق مـن بعيد دعـمًا أو استهجانًا، وإنما الانتقال سريعًا لحالة فاعلة وضاغطة باتجاه كسر الحصار وفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية كخطوة أولى تمثل الحد الأدنى مـن المطلوب.

فتح معبر رفح يجب ان يتحول لأولوية عمل لجميع الأطراف، لصنع حالة ضاغطة على الجهات المعنية والمسؤولة وذات العلاقة، مثل: الاحتلال والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وباقي المؤسسات الدولية، وكذلك الدول العربية والإسلامية، وفي مقدمتها مصر التى تملك قرار المعبر بالكامل.

فتحميل الاحتلال المسؤولية كاملة وإفراده بالضغط والمطالبات لا يستقيم فى اثناء التسليم برواية أنه لا يمكن فتح المعبر دون موافقته ولا يمكن تمرير إلا ما يقرّه ولا إخراج إلا مـن لا يعترض عليه. فمن يدعي ان هذا هو سقف موقفه وما يمكنه فعله تجاه حصار غزة ومعاناة أهلها- وهو غير صحيح بالتأكيد- يستحق الضغط، كَمَا الاحتلال سواءً بسواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى