الاخبار العربية والعالمية

ديوان “أغنيات سجينة” لجورج صبرة.. سيرة نضال قصائد امام النسيان | ثقافة سام نيوز اخبار

“أنا لست شاعرا، ولا أدعي، ولم أكتب الشعر قبل دخولي السجن، ولم أفعل ذلك بعد خروجي منه أبدا. لكنها تجربة خاصة خرجت مـن بين يدي، وكنت شاهدا على ولادتها ورعايتها. ولها ظروفها وحيثياتها بالزمان والمكان والارتفاق”.

هذا ما دوّنه السياسي والمعارض السوري جورج صبرة فى نهاية المقدمة المؤثّرة لديوانه “أغنيات سجينة”؛ فهو ليس شاعرا (وهو قول يحتمل المعارضة) ولكن الشعر كان سلاحه لمجابهة النسيان الذى دهمه بعد انقضاء مدة مـن محكوميته (8 اعوام) فى زنزانة منفردة ضوء فرع الأمن الداخلي فى دمشق.

قصائد لجأ صبرة الي حفرها فى ذاكرته مستعينا بالإيقاع ووقعه على السامع، عوضا عَنْ عدّة الشعراء (الأقلام والورق) الممنوعة عَنْ سجناء الزنازين المنفردة، فبالاعتماد على الإيقاع والتمثيل والتكرار نجح صبرة فى حفظ قصائده المغنّاة واحده تلو الاخرى، وبتلك القصائد قاوم وحيدا عوامل الانكسار التى تهيّئها الأنظمة الشمولية فى سجونها لاستئصال إرادة معارضيها بعد القبض عليهم متلبّسين بجرم الدعوة الي المساواة أو الحرية.

ولأن السجن الانفرادي يدفع سجينه للنبش عميقا فى الزوايا الغائرة والمخبوءة مـن وجدانه وذاكرته، ويضطره الي إعادة اكتشاف العاديات التى لم تكن تشغله فى ازدحام الدنيا وعيشها، فإن ديوان “أغنيات سجينة” هو تفاعل خلّاق بين التجلّيات الوجدانية للشاعر مـن جهة، وسحر العاديات المُعاد اكتشافها مـن أخرى فى قالب شعر محكي ومغنّى زاخر بالصور البديعة والمفردات المطبوعة بفرادة البيئة التى ينحدر منها جورج صبرة، وفرادة تجربته السِّيَاسِيَّةُ والإنسانية.

صبرة: لم أكتب الشعر قبل دخولي السجن، ولم أفعل ذلك بعد خروجي منه أبدا (رويترز)

للقصائد سِيَر نضال

وأسوة بصاحبها، كانـت لتلك القصائد سيرة نضالية امام القمع والنسيان، فبعد مضي عامين على ولادتها وحفظها فى ذاكرة صبرة، انتقل الأخير مـن فرع الأمن الداخلي فى دمشق الي سجن صيدنايا العسكري؛ حيـث تتوفر الأوراق والأقلام للتدوين. وبعد تشجيع مـن زملائه، أخذ صبرة بتفريغ حمولة ذاكرته على ورق، ولمّا فرغ مـن الديوان سلّمه لأحد السجانين المتعاطفين، فهرَّبه الأخير الي الخارج؛ لترى قصائد صبرة الضوء بعد اعوام مـن عتمة السجون.

إلا أنها “انتقلت آنذاك مـن سجن الاضطهاد، الي سجن الوحدة والإهمال على أحد رفوف المكتبة فى البيت” كَمَا يدوّن صبرة فى مقدمته.

ومع الاعتقالات المتكررة التى ترصد لها كاتبها فى بداية الثورة السورية على يد الأجهزة الأمنية للنظام، اضطر وأسرته الي اللجوء لفرنسا مخلّفين وراءهم كل مقتنيات منزلهم.

ومن هذه المقتنيات النسختان الوحيدتان (الورقية والإلكترونية) مـن ديوان “أغنيات سجينة”، ولاحقا تعرّض منزل صبرة للنهب والتخريب جاء الى “مليشيات النظام وشبيحته” ما جعله يفقد الأمل فى استعادة الديوان.

ولكن نسخة ورقية أهداها صبرة لأحد زوّاره فى صيف عَامٌ 2007، كُتب لها ان تنجو وتنتقل الي باريس عبر الحقيبة الدبلوماسية للسكرتير الاول فى السفارة الفرنسية بدمشق، ولاحقا عَثر الزائر عليها بمكتبته فى عَامٌ 2022 وأعادها لصاحبها؛ لترى الطبعة الأولى منها النور قبل أيام عَنْ دار “موزاييك”.

غير أنها ما تزال تحمل عنوان “أغنيات سجينة” بالرغم مـن الإفراج عنها، وفي ذلك دلالة على هُويتها بوصفها أغنيات/قصائد سُجنت وناضلت امامّ الضياع المعنوي والمادي لسنوات.

وعن ظروف كتابتها يدوّن صبرة: “كتبت فى زنزانة منفردة أقرب الي تابوت، وهي فسحة لا يتجاوز طولها 180 سنتيمترا، وعرضها 90 سنتيمترا، ليس فيها مـن الأغراض والحاجيات سوى 3 بطانيات عسكرية، تشكّل فراش السجين ولحافه، مع كاس مـن البلاستيك لمياه الشرب، وحذاء السجين الذى يحفظ أشياءه الصغيرة، ويقوم مقام الوسادة تحت رأسه”.

صراع الأضداد فى دراما الانفراد

فى الليالي الحالكة للزنزانة رقم 11، وعبر عالم الخيال التعويضي، يترك صبرة العنان لروحه المتمردة على السجن لتعرّج مـن بين جدرانه السميكة الي عالم أكثر رقّة وحنان، الي عالم الحبيبة التى يستعيد وجهها، ويحدثها بين أمل يرجوه وشوق يحدوه:

مـن كتر شوقي مستني
شوفك مثل سنين الخير
والليل اللي سرقك مني
يرحل مع رفوف الطير

ويمدّ صبرة الشعر جسرا للتواصل مع الحبيبة، فيفضي اليها بلواعج أشواقه، ويبثّها أحزانَ افتقادها، وينعم باللحظات المتخيلة بقربها؛ فيهتاج خياله بمشاهد يتحدى بها ظلام السجن، واستبداد الطاغية.

وقَّف ع شباكي القمـر
بالليل متحدّي الخطر
وإيده انمدِّت بين قضبان الحديد
وَعِّتْ عيوني صوبها بخفّة وحذر
قلي: لعندن رايح الليلة أنا
إن كانك معي رايد توصّلن خبر

لكن هذه الْمُشَاهِدِينَ الجميلة سرعان ما تتلاشى مع التقدّم فى الديوان؛ فصبرة الذى واجه جلّاده بصبر وجَلد، يبدو الان غير قادر على مقاومة الطبيعة الإنسانية العاشقة للحرية، فنجده غارقا فى واقع أليم يمزج شوقه باليأس، وتتحوّل الحبيبة مـن رمز للحب والجمال الي خيال مُعدّ للبوح والنجوى، فيقول:

يا قلب وَيْنُن؟ وين أحبابك؟
متوحّد ومطوي مع النسيان
اسمك رقم ولا أهل ولا عنوان
وحلمك يا حسرة كان ياما كان
متبعثر ومرمي على جنابك
يا قلب وَيْنُن؟ وين أحبابك؟

ولا يكاد صبرة يستسلم لحياة السجن الجائرة، وظلمة الزنزانة ووحدتها القاتلة، حتـى نراه وقد تمرد مجددا على الجدران والحراس والقيود، مخترقا فضاء السجن مـن “الشرّاقة” عابرا مـن بين قضبانها الي فضاءات الحياة والمسرّة فى بلدته الريفية؛ هناك حيـث الأعراس، ورقصة الدبكة، وإيقاعات يطرب صبرة اليها منتشيا يدا بيد مع الحبيبة.

إيدي بإيدها بينما الحلقة
عم تكتمل لتبدا الدبكة
وزندي ع زند اللطف والرقّة
وصابيعنا مع بعض مشتبكة

وبهذه الوتيرة الدرامية المتنامية تدريجيا يأخذنا صبرة الي عالمه المتناقض دَاخِلٌ الزنزانة، لنشهد صراع الأضداد بين خارج وداخل، ونور وعتمة، وجمال وقبح، وشوق ويأس على طول الديوان، الصراع الذى يعكس حالته الوجدانية فى تلك السنوات المريرة التى أمضاها معتقلا بين عامي 1987 و1995.

الذاكرة كملاذ أخير

ومن مكانه المعتم، محاطا بالجدران الإسمنتية للزنزانة الضيقة، يتذكر صبرة حديقة منزله، فيتساءل عَنْ حال أشجارها وأزهارها، ويتشوّق الي سهرة فى حضرة خضارها، فيصوّرها فى قصائده كلوحة خالدة تسمّرت امام عينيه فتوقّف الزمن عندها:

كيف حال الزنبق والنرجس
وحواض الزينة وترابا
وزهورها اللي بيعرفوني
والياسمين اللي كان معريش
برّا على سور البلكونة (الشرفة)
بعده عم يعطي للعالم
مـن عطره وجماله مونة؟

وفي مرحلة أخرى الي العالم الخارجي، تطلّ بنا قصيدة “يا ليل” على مشاهد مـن سوريا فى ثمانينيات القرن الماضي، حيـث يقود الشاعر الليل مـن يده ليريه حال البلاد فى قبضة الاستبداد:

رح خبرك يا ليل واتوعّى معي
إياك تنقل عَنْ لساني هالخبر
أطفال نامت على الطوى يا حسرتي
تحتها حصيرة وفوقها بساط الشعر
وفي ناس سهرانة اتعدّ همومها
وفي ناس سهرانة اعتادت عالسهر
وفي ناس عم اتنام جوا قصورها
بعين غفيانة وعين مـن حَذر
وع بوابهن حراس عم يحموا الحديد
وبإيدهم يا ليل عم يلمع خطر

وعندما ينزل العيد دون بهجته ضيفا ثقيلا على صبرة، وتفعل الوحدة فعلها فى نفسه، نجده على منوال أبي الطيب المتنبي يخاطب العيد، ويحدّثه معاتبا:

مـن مدة بتروح وبترجع
نفس الطلّة ونفس المطلع
وينا أفراحك يا عيد
اللي كانـت ع الدنيا تسطع
وتتعبّا (تمتلئ) بوجوه الناس
وجوات قلوبن تتوزّع

وهكذا تتحوّل الذاكرة، ومناسبات الحياة التكرارية والاعتيادية، الي ملاذ يلجأ إليه صبرة ليعيد إنتاج عناصره فنيا بما يسعفه فى الصمود امام واقع غير إنساني، والتحايل على كل ضروب القهر التى يولّدها ذلك الواقع بالجمال والنغم والحياة.

ويعتبر جورج صبرة مـن الأسماء البارزة فى المعارضة السورية؛ حيـث انتخب عضوا فى الأمانة المركزية لحزب الجمهور الديمقراطي السوري عَامٌ 2005، ثم رئيسا للمجلس السوري الوطني عَامٌ 2012، وأخيرا نائبا لرئيس وفد المعارضة فى جنيف عَامٌ 2016.

بينما لصبرة تجارب مع الإنتاج التلفزيوني؛ حيـث أعدّ وقدّم عددا مـن البرامج التربوية، الي جانب تدوينه لعدد مـن المجموعات القصصية الموجهة للأطفال كـ”الأرض بيتنا الكبير” و”مغامرات أرنوب المحبوب” وغيرهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى